تراث القرية الأردنية في رواية «العودة من الشمال» لفؤاد القسوس
الرأي- صبحي فحماوي تاريخ النشر 2/8/2019
التراث الشعبي ثروة كبيرة من الآداب والقيم والعادات والتقاليد والمعارف الشعبية، والثقافة المادية والفنون التشكيلية والموسيقية، وهو علم يدرس الآن في الكثير من الجامعات والمعاهد العربية والأجنبية، لذا فإن الاهتمام به من الأولويات الملحة.
والتراث بمفهومه البسيط هو خلاصة ما خلّفته (ورّثته) الأجيال السالفة للأجيال الحالية، وذلك ليكون عبرةً من الماضي، ونهجاً يستقي منه الأبناء الدروس ليَعبُروا بها من الحاضر إلى المستقبل.
وسبب اختياري لهذه الرواية التي لم تأخذ حقها في النقد والتحليل والتقييم كما أخذت روايات أخرى مثل رواية «أنت منذ اليوم» لتيسير السبول، والتي كانت صدرت قبلها.. إذ صدرت رواية «أنت منذ اليوم» عام 1968.. ترى هل السبب في شهرة رواية السبول أنه توفي شابا صغيرا، بعد أن لم يستطع مواصلة حياة النكبات المتتالية التي يعيشها الوطن العربي، ذلك لأن الكُتاب الذين توفوا شباباً يَعِزّون على قرائهم، فيؤرخونهم أكثر من غيرهم.. مثل غسان كنفاني وأبو القاسم الشابي وتيسير السبول وآخرين.
هذه الرواية المدهشة ترسم التراث الشعبي العربي في الأردن أكثر من أية رواية صدرت في أي قطر عربي آخر، كما رسمته ووثقته ودونته هذه الرواية الغاصة بالتراث، إذ أننا نستشعره هنا بجميع الحواس الخمس؛ البصرية والسمعية والشم والذوق واللمس.. ولهذا نستطيع أن نقول إن رواية (العودة من الشمال) لفؤاد القسوس اكتملت شروطها الفنية في رسم معالم تراث القرية العربية الأردنية، وفي الوقت نفسه؛ اكتملت فيها مكونات الرواية الحديثة، وإلى التفاصيل..
تراث عمارة القرية الأردنية:
يصور فؤاد القسوس معمار القرية، والذي أصبح تراثاً لا تستطيع القرية العربية الأردنية تجاهله مهما تطورت العمارة المدينية، وتشابكت مبانيها الحديثة، إذ يقول السارد: «جدران القرية تتكئ على بعضها كأنما تخشى السقوط، أو كأن طول الوقوف قد أتعبها وهد قواها، فارتكزت على جارتها تعينها على حملها... وتسند حجارتها البارزة التي تداخلت في بعضها بغير نظام أو ترتيب».
لاحظوا تراث نوع حجر البناء الذي ذكره السارد: «حجارتها البارزة التي تداخلت في بعضها بغير نظام أو ترتيب..» لقد تم تطوير هذا الحجر حالياً، وتطور نوع المادة اللاصقة لحجارة البناء بعضها ببعض، ووسيلة امتزاجها؛ من طين ترابي وتبن، إلى إسمنت ورمل، ..فالحجارة البارزة المتداخلة بغير نظام، هي حجر البناء نفسه الذي يسمى اليوم عند البنائين في أرقى أحياء المدينة الأردنية (حجر طُبْزِة.. أو حجر مسَمْسَمْ..) هكذا يدقون الحجر ليكون غير منتظم.. أو ليظهر بغير انتظام.. وعدم الانتظام هذا مأخوذ من تراث عمارة القرية الأردنية، ليعني الأصالة والعفوية في البناء.. قد يكون شبيهاً برغيف خبز الطابون غير منتظم السطح، أو غير أملس بسبب حجارة الطابون التي يوضع عليها الرغيف عجينا فيشوى كما هو مجعلكاً.. وهذا الشكل أصبح تراثا جمالياً أيضا، مثله مثل حجارة البناء غير المنتظمة...
قد يكون هذا التشكيل صورة من صور الحياة الفوضوية غير المنتظمة في بلادنا.. كل هذا يعتبر تراثاً متداخلاً بعضه مع بعض».
وأما عن غرف بيوت القرية فهي تتكون من عدة حجرات، إحداها؛ «حجرة تمكث فيها أم إبراهيم معظم نهارها وبعضا من ليلها، توقد فيها النار وتهيئ الطعام، وتستقبل زائراتها، وتعجن عجينها، وتخبزه في الطابون، قرب باب الحوش الكبير».
وهذه التفاصيل توضح لنا النشاطات اليومية التي تقوم بها الزوجة الريفية، إضافة إلى أعمال التنظيف ورعاية الأولاد، وخدمة الزوج بكل متطلباته.. وكذلك «غرفة صغيرة عاون عسافا في بنائها نفر من أقاربه وجيرانه». «ويجاور الدار من الجهة االشرقية خان تبيت فيه الغنم.. ومن الجهة الأخرى تلاصق الدار..».
«ويحيط بالجميع سور غير منتظم الأضلاع، زاد في ارتفاعه من الجهة الغربية نبات شائك».
وهنا نفهم معنى توارث التراث، الذي رغم تطويره وتحديثه إلا أنه يبقى يحمل بصمات الأصل، بصمات ما كان يُعمل به من قبل.. وهنا نفهم أهمية التراث الذي نبحثه في مثل هذا المؤتمر المنعقد في جامعة جدارا لبحث الجذور، أو البنية التحتية للحضارة العربية الأردنية، ومنها: (حضارة البناء) الذي لم يأت من فراغ, ..فالبناء العربي المصري مثلا مأخوذٌ من الطوب الأحمر المشوي، والبناء الخليجي مأخوذٌ من بناء الطين غير المحتوي على الحجر.. والبناء الأوروبي بعضه من الطوب الأحمر المأخوذ من الطين الأحمر المشوي، وبعضه من الخشب، حيث الغابات والأشجار، فهو بناء جدران من الخشب وتبليط خشبي... هنا تبرز أهمية دراسة التراث وأثره في تطوير الحضارة الوطنية.. والمعمار الريفي عند فؤاد القسوس ليس جدرانا وحجارة تتكئ على بعضها فحسب، بل هو معمار مرتبط بالشجر.. فلا معمار عربي أردني بدون شجر.. حيث (الماء والخضراء والوجه الحسن)، كل هذا متكامل في تراث العمارة الشامية الأردنية، والتي رسمها القسوس.. إذ يقول: وفي نهاية الطريق انتصبت شجرة تين وحيدة.. يبدو لونها الأخضر متميزا بين الصخور الجرداء.. وفي الشتاء تبدو أغصانها عارية مرتفعة إلى السماء كأنما تشكو الوحدة...»، بهذا الأسلوب الجميل بث القسوس حياة وحركة في البيوت، وأنسن الجمادات والكائنات الحية، إذ جعل الروح المبثوثة في جدران القرية تتكئ على بعضها وتتساند لترتاح، وخلق فيها مشاعر إنسانية أو حيوية بقوله: «كأنما تخشى السقوط». وهنا؛ الجدران (تخشى).. فهي إذن تحيا وتشعر مثل الإنسان.
نحس هنا في المعمار القروي حياة، تُعتبر جزءا من المجتمع الريفي.. وجُزءا من التراث الريفي الأردني.. ولكن ما يميز هذه الجدران هو تضامنها واعتمادها على بعضها.. هي جزء لا يتجزأ من مجتمعها.. تماماً كما يتعاون أصحابها مع بعضهم في بناء غرفة إضافية، أو ترميم سقف هائل، أو إعادة بناء جدار منهار.. هكذا تقوم الجدران بالاعتماد على بعضها.. والاتكاء على بعضها، تماماً كما يعتمد الجيران أو الأقارب على بعضهم بعضا في تشييد غرفة منهارة أو ترميم سور بيت آيل للسقوط.. هكذا تشعر بجمالية نص القسوس، الذي يبث الحياة في أشياء القرية.. من بيوت ومكونات أخرى. ومما يؤكد هذا، قول السارد: «وفي نهاية الطريق انتصبت شجرة تين وحيدة».. وكلمة «انتصبت» وليست «نُصبت»، تفيد بأن شجرة التين هي التي وقفت، واعتدلت وتفرعت.. لاحظوا كون شجرة التين «انتصبت» في نهاية الطريق.. كما نقول: «انتصب قاطع طريق في وسط الشارع..»، وكما يقول الشاعر الفلسطيني توفيق زيّاد: «منتصب القامة أمشي.. مرفوع الهامة أمشي..»، من هذا الانتصاب في نهاية الطريق، انبثقت عندنا ميادين في نهايات شوارع المدينة الأردنية.. إذ انتقلت نهاية الطريق القروية، فصارت دواوير في نهاية الطريق المدينية.. بعضها يكون على شكل دوار أول، يتبعه دوار ثان، ثم دوار ثالث ورابع وخامس وسادس وسابع وثامن.. في الطريق المديني الحديث.. وكل دوار يقف في نهاية الطريق، وقد تنتصب في وسطه شجرة أو أشجار.. هذا التراث العربي الأردني المديني مأخوذ من تراث القرية التي أوضح معالمها فؤاد القسوس، وكأنه مهندس بارع، يصمم، ولا يكتفي بالتصميم الهندسي، بل يبث الروح في الكائنات التي يرسمها.. إذ نلاحظ تلوينه للشجرة التي يميزها عن الصخور الجرداء بقوله: وهو هنا لا يترك الشجرة عارية الأفرع، بل يلونها بقلمه كي: «يبدو لونها الأخضر متميزا بين الصخور الجرداء..»، ويتابعها في مواسم الربيع والصيف حتى الخريف والشتاء إذ يقول : «وفي الشتاء تبدو أغصانها عارية مرتفعة إلى السماء كأنما تشكو الوحدة..»، من يمر من جانب شجرة التين عارية الأغصان يرى أنها عارية... مجرد عري.. ولكن القسوس الذي أنسن الشجر والحجر، رأى فيها إنسانية، وهي ترفع أغصانها إلى السماء كأنما تشكو الوحدة.. كأنما تشكو خجلها من عريها.. كأنما تشكو البرد.. كأنما تشكو العطش.. كأنما تشكو صعوبة الحياة مثل سائر البشر.. وبهذا صارت في الشجرة حيوية وحياة ومشاعر حقيقية.. وأنا شخصيا لا أستغرب هذا، إذ أن الحياة كلها مجرد تخيلات وأوهام، تبدأ مثل غيمة كثيفة العتمة دافقة الأمطار، ثم تنتهي مثل سحابة صيف.. وكأن شيئا لم يكن.. وهذه الدهشة من فحوى الحياة، تجعلنا لا نستغرب كون الشجرة أية شجرة، وهي هنا شجرة تين تقف وترفع يديها إلى الله تستمد منه الحياة، بصفته «نور السموات والأرض»، تشكوه هموم مشاعرها..
هكذا تأتي جمالية الرواية الناجحة، وميزتها عن غيرها من كتابات التاريخ والجغرافيا والسياسة، بأن الرواية تنقل إلى مخيلتك كائنات حية تسعى، وفيها حياة وحيوية وحركة.. التراث الطبقي في الريف الأردني
«أما أغنامه فليست أكثر بكثير من أغنام غيره، ستون شاة». في تلك الأيام، كانت الفروق في القيمة والجاه والممتلكات بين القرويين الأردنيين بسيطة، لم تكن هناك طبقات، بمعنى الطبقات، فأي ريفي يستطيع زيارة جاره الريفي، القريب أو البعيد، وأن يتحدث معه عن همومه ومشاكله وقضاياه.. إذ أن معدل امتلاك القرويين في حوالي العشرين إلى ستين شاة.. وهذا يريح الناس الذين هم في حال متقارب، وكما يقولون أن «الموت مع الناس الميتين رحمة»، أي أن القرويين، حتى ولو كان حالهم ضعيفاً، فهم سعداء بأنه لا يوجد من ينغص عليهم عيشهم، بمروره في حارتهم وهو يقود سيارة مرسيدس شبح، أو سيارة دفع رباعي تهدر في صمت القرية، بينما هم يركبون الحمير مثلاً.. الناس في الريف متساوون تقريباً... ولكن الناس هذه الأيام غير سعداء حتى في الريف، إذ أنهم قد ينتخبون شخصاً من بينهم ليكون نائباً ديمقراطيا في عصر الديمقراطية الرأسمالية المتوحشة، ليتربع في مجلس الأمة، فيجدونه قد رحل عنهم وسكن في العاصمة عمان، وصار لا يفكر إلا بنفسه، وقد يكون من الصعوبة بمكان وصولهم إليه.. صارت هناك طبقات متباعدة.. حتى في الريف، إذ أن أحدهم قد يكون يملك خمسمائة دونم أرض وجيرانه يمتلك كل واحد منهم دونمين أو عشرة دونمات، أو حتى ثلاثين في أحسن الأحوال... صارت الآن طبقات متباعدة، انبثقت من ماض كان فيه «الناس سواسية كأسنان المشط». ففي القرية، تجد إبراهيم بن العساف يحنو على مرزوق راعي أغنام عساف، فيساعده في نقل التبن والشعير لأغنام أبيه رغم أن مرزوق هو المسؤول عن مثل هذه الأعمال.... وهذا الشعور بالتعاطف مع عامل الأب، لم يعد موجوداً بعدما تباعدت الطبقات، فصار ابن صاحب المصنع أو الشركة لا يلتقي بعمالها إلا آمراً أو ناهياً، أو مخالفاً لأحدهم بخصم من الراتب، أو مكافأة بسيطة في أحسن الأحوال.
تراث الحيوانات في القرية:
وما دمنا في تراث القرية، فلا شك أن الحيوانات هي جزء لا يتجزأ من هذا التراث الريفي، ومن هذه الحيوانات يذكر السارد المواشي والكلاب، ولا يستثني حتى الذباب، يرسمها بطريقة تبكينا أحيانا، وتضحكنا أحيانا أخرى، وأحيانا تشهينا لحوم بعضها المشوية أو المطبوخة، خاصة في الولائم.. وتعيش الحيوانات في القرية قريبة من الناس، في مكان يسمى حوش الدار. وهنا يقول القسوس: «وتسرح في الحوش بعض الخراف ودجاجات أم إبراهيم».
الحوش هنا يَحُوشْ، فهو لا يحمي الدار وأهلها من المعتدين فقط، بل هو يضم مساحة كافية للأغنام وحتى الدجاج لتسرح وتمرح فيها.. وكي لا تبيض الدجاجات في الحارات، أو تتعرض للخطف والسرقة.. فهي محاطة بما يسمى الحوش.. وقد يضم الحوش بعض الأشجار التي تستظل النعاج تحتها.. ولكنني لم أتفق مع الروائي في كلمة (تسرح).. لأن السرح أو السرحان هو خروج الغنم لترعى في الحقول والبرية، وكان الأجدى أن يقول: «وتتجمع في الحوش.. أو وتُقيِّل في الحوش.. من القيلولة.. أو وتنضوي في الحوش.. أو وتسترخي.. أو وتنزرب، من الزريبة.. والمغني الشامي يقول في هذا الصدد»: «تسرح وتمرح.. والقلب يجرح..». وهذا السرحان لا يأتي إلا خارج البيت.. نقول: «سرحت الغنم».. أي انتشرت في المرعى. ولا يستثني حتى الذباب من داخل حوش البيت، إذ يقول: «كان الذباب يحوم حول أنفه وعينيه».. حتى الذباب وهو جزء من حيوانات المكان، طفيليات الحيوان والإنسان معاً.. وأما عن كلب عساف، فهو يتمدد باسترخاء في مكانه الظليل عند ساق شجرة التين التي هي في نهاية طريق القرية.. السارد هنا يرسم بالكلمات علاقة الكلب مع أهل الحارة، إذ يلعب أولاد الحارة مع الكلب، والسارد يقول: «وأحدهم يضربه بحجر، فيهرب الكلب عدْواً.. وعلى صوت نباحه يخرج مرزوق راعي عساف، وهو يقول متظاهرا بالغضب: «من الكلب الذي ضرب الكلب»؟ وهذه العبارة دارجة في التراث الشعبي.. وكثير منا من يتندر بمثيلاتها، كأن يقول أحد الأولاد لرفيقه الذي يلعب معه: «أنت يا أخينا يا حمار.!» فما دام هو أخوه، وهو حمار، فماذا سيكون القائل؟ أمثلة كثيرة في تراثنا الشعبي الهزلي الساخر، ولا داعي للتفصيل..
تراث الملابس في القرية
ملابس النساء معروفة بكونها فضفاضة، محتشمة، طويلة، بلونها الأسود، لقوله: «ويرى أمه أمامه بثيابها السوداء..» وهذه الملابس النسوية السوداء تسمى (الدِّلِقْ).