من الحرف الشعبيَّة ( الفخار)
الصلصال ( الفخار)
 
منذ ثمانية آلاف سنة قبل الميلاد وأكثر، وقبل أن ينقش الإنسان ( ابن التراب) سيرته بالقلم والريشة، دونت الحياة سيرته في أشكال الفخار: آنية طعام أو جرة ماء أو تابوت ظل َّ حاضرًا يحوي جسده الراقد إلى يوم الساعة.
ذات وقت هطلت السماء بفيض من مطر، فركض ابن الإنسان برجله نحو كهفه ليحتمي من الزَّخ المتواصل ولينعم براحة بعد عناء. وإذ أشرقت الشمس ولفح الكون هواء جاف، خرج الإنسان يوقد ناره ويشوي طعامه.
ويا هول ما رأى! فقد وجد أن دعسة قدمه قد تفخَّرت وجفت تحت أتون النار. وتذكر آنذاك أن الأرض المبتلة التي وطئها وحفرت آثار قدمه الحافية في طينها قد آلت لما هي عليه. ومن وقتها عرف الإنسان كيف يسخِّر التراب لخدمته، وصنع أدواته وأوانيه.

وفي القرن الرابع قبل الميلاد، عرف الإنسان عجلة بسيطة، عُرفت بالدولاب تدار باليد. وتناقلتها الأجيال حتى وقتنا الحالي وصارت هذه الآلة تدار بالكهرباء.

 

وصارت الأواني الفخارية مصدراً لدراسة التاريخ عند العلماء عبر العصور عندما كانت النصوص تغيب مع الأدلة التاريخية الأخرى.

 

عمد الإنسان لجلب طين نقي خال من الشوائب لصنع أدواته وتوابيته، فكان يغربل التراب ويخلّصه مما يعلق به من مواد غريبة،  ثم يعمد لغسله ونقعه بالماء النظيف عدة أيام ليخلص مما علق به من مواد غريبة، ويذوب كليًا؛ فيعجنه عدة مرات ؛ فالعجن المتواصل يخلص الطين من الفقاعات الهوائية، ثم تأخذ اليدان البشريتان في تكوين الشكل المراد: آنية طعام، أو جرة ماء، أو تابوت لحفظ جسد ارتقت روحه إلى السماء.

 

ويمكث الشكل الفخاري في الظلِّ أيامًا ليجف بهدوء وسكون، ولم يكن يعرضه للشمس مباشرة ؛ فالشمس، وإن ساعدت القطعة على الجفاف السريع، فإنها تخلف فيه تشققات تتلفه.

 

وحينًا كان الإنسان يلجأ لدهان لقطع بألوان متعددة حتى يغلق مسامها ولا تعود تخرج منها المواد السائلة. وحينًا آخر يقوم بتزجيج هذا الفخار من الخارج بمركب زجاجي يندمج مع سطح الآنية ليكون طلاء معدنيًا مركبًا يضفي بعدًا جماليًا على الفخار. وعرف الإنسان هذا المركب الزجاجي منذ القدم، وقبل معرفته بصناعة الزجاج.

 

قطعة الفخار التي تتعرض للنار إذا كسرت لا تعود أبدًا تتشكل من جديد فخارًا آخر. فالتراب سيأخذ بعد الحرق حالة أخرى شبيهة بالرمل، لا تعجن من جديد، فالرمل لا يعجن أصلًا.

وللفخار في الأردن حكاية تسلسلت عبر الأزمان المتعاقبة كما تحكيها الصور والشروحات في متحف القلعة، حكت لنا عنها بعض أوانٍ خلَّفها التاريخ وكشفتها أعمال الحفريات والتنقيب الأثري. وقد بدأ ظهور الفخار في نهاية العصر الحجري الحديث خلال الفترة اليرموكية قبل 4500 ق.م وقد استخدم الفخار جنبًا إلى جنب مع الصوان. وأما العصر البرونزي المبكر من 300-1900 ق.م. فقد كان فخارًا بدائيًا يحتاج للإتقان. ثم تطور صنع الفخار في العصر البرونزي المبكر، والوسيط والمتأخر الذي امتد حتى 1200 ق.م ولوحظ في تلك الفترة دقة التشكيل واختلاف اللون. ولوحظ أن إنسان ذاك العصر قد شكل من عظام الحيوانات طيورًا لزخرفة الصناديق في العصر البرونزي المـتأخر، وكان فخار العصر الحديدي أقل إتقانا من العصور التي سبقته بسبب كثرة الحروب التي خاضها الناس في ذلك الوقت وأخذ الفخار في التحسّن في العصر الحديدي الثاني بسب تأثره بالفن الفينيقي واليوناني.
وأما ما ميز فخار العصر الهلنستي 332-63 ق.م فإن أكثر فخاره كان مستوردا من بلاد الإغريق وتميزت هذه الفترة بصناعة النقود.

وأما فخار العصور الإسلامية فقد تميّز العصر الأموي منه بأنه فخار غير مزجج والإسلامي المملوكي بأنّه مزجج ومطلي، حيث كان يستعاض عن آنية الذهب والفضة بالآنية المزججة.
وأما فخار العصر الروماني فتميز بكثرة صناعة الأسرجة، جمع سراج، وهو أداة للضوء يضاء بالزيت، وله فتحات متعددة لوضع الفتيل.
 
وفي الأردن الآن معاهد للتدريب على حرفة الخزف والفخاريات؛ حيث تشرف وزارة الثقافة الأردنية على موقعين منها هما مركز الأميرة سلمى للطفولة في الزرقاء ومركز تدريب الفنون في الوزارة. وهناك أيضًا مركز السلط للحرف اليدوية، ومركز كورا في المقابلين ويتبع الصندوق الأردني الهاشمي، وبيت البوادي في عبدون. و ثمة فنانون يقيمون محترفاً لهم في عمان ويقدمون الخزف بفنية عالية وحرفية بالغة، ومنهم الفنان محمود طه والفنان رائد الدحلة والفنانة مارغو ثادرس والفنانة نجوى عناب والفنان حازم الزعبي، وقد قامت الفنون الشعبية بزيارة مُحْترَفِه في حدائق الحسين، ويقدم الفنان للرائي الخزف على شكل جداريات مزججة بمادة (الكاولين) وقد قام بأنسنة الفخار وشخص منه تماثيل، وهناك يلمس الضيف رقيَّ الفن وجمالياته وتحول قطعة الفخار، التي هي من تراب، إلى تحفة نفيسة تزين بها صالونات الضيوف وجدران البيوت.

وهناك من يعمدون إلى صناعة الفخار كحرفة وليس فنًا وإن لم تخل هذه القطع من الجماليات الفنية، وهم لا يزالون يصنَّعون الأدوات البسيطة المستخدمة في البيوت الأردنية من آنية الزرع وجرَّة الماء وفي الآونة الأخيرة بدأوا يصنعون الفخار على شكل ( نوافير ) توضع في مداخل البيوت وفي الحدائق والمزارع الخاصة، يخرج منها الماء مشكلا بهجة للنظر والقلب.
وفي الأردن تزدهر حاليًا صناعة شبيهة بالفخار وليست بالفخار، وليس لها قيمته الأثرية، بل هي مادة خزفية صناعية، وهي على شكل أكواب وزبادي وطناجر لطبخ الطعام في الفرن ويتخذ لها أجمل الألوان وأبهجها. والكثير منها يستورد من الصين وتباع بأبخس الأثمان على رفوف دكاكين الأدوات المنزلية.

ولا تعدم، وأنت تمر بمركبتك عبر الطرقات في الأردن، أن ترى حرفيي الفخار المشوي يقيمون معارض لبيع منتوجاتهم، وتتذكر أيام كانت جدتك تزود الزير بالماء المجلوب من البئر، لتجده عند عطشك شرابًا عذبا سائغاً للشاربين.
 
المراجع:
الفخار والخزف، دراسة تاريخية وأثرية، ناهض عبد الرزاق، دار المناهج – عمان.
الزيارات الميدانية:
محترف الفنان حازم الزعبي – عمان حدائق الحسين.
المتحف الاردني – جبل القلعة.
محلات الفخار المنتشرة على جوانب الطرق.

 

الكاتب: 
منيرة صالح
© 2024 تطوير وتصميم شركة الشعاع الأزرق لحلول البرمجيات. جميع الحقوق محفوظة