من قبل الشفق إلى ما بعد الغسق
يبدأ النهار عند أهل البادية ومن الليل بقية, ولا يكاد ينتهي يومهم إلا بعد أن يمضي شيءٌ من هزيع الليل الأول, إذ ينهضون من نومهم قبل أن تنهض الشمس من

 
مشرقها, ولا تستقر بهم الأرض إلا بعد أن تلوذ بالمغرب ساحبة عليهم شيئا من ظلمة العتمة, فلا يبقى إلا القليل لهجوعهم ليبدأوا من بعد يوما جديدا.
يستيقظ أهل البادية باكرا, فينتفضون من فرشهم على عجل, يتسابقون مع أنفسهم كأن الوقت أدركهم, يختلط تعاقب الصيحات التي تتردد على الأسماع تحث المتلكئين على النهوض, الجميع يتركون مراقدهم فينتشرون, كل يتجه إلى حيث يؤدي عمله, النساء أسبقهم, يسرعن إلى طي الفرش, وتحضير الزوائد, والرجال يتهيأون إلى حث الخطى قبل أن تبعث الشمس أشعتها

فمع أول انبلاج الصباح يشد "الرعاة" على ظهور الدواب "الأجلة", مفردها "جِلال", وهو دثار يقيها القروح من أثر الأثقال, يثبته بواسطة "البطان" وهو "سفيفة" أي قطعة دقيقة من النسيج تشد طرفي "الجلال" إلى بعضهما من تحت بطن الدابة, ويجعل "المضفر" وهو "سفيفة" أخرى أو قطعة حبل من الغزل المجدول تكون بمؤخرة "الجلال" تثبته من تحت عجب الذنب, ويجعل فوقه "الخُرج" وهو قطعة من النسيج بعرض بدن الدابة يطوى طرفاها للداخل إلى ما دون الثلث لتخاط حوافها من الجانبين لتكون على شكل كيسين يقال لهما "صرعتين", يضع في إحداهما زوادته من الطعام وفي "الصرعة" الأخرى "الجود", وهو وعاء لحفظ الماء يتخذ من جلد "سخل" من صغار الماعز, وبعد أن يجعل باقي متاعه على ظهر دابته اقتلع وتدها الذي يبقى متصلا مع "الرسن" واقتادها أمام القطيع صوب المرعي, و"الرسن" حبل يجعل في عذار الدابة الذي يحيط برأسها ليسهل قيادها.
 
يتجه "الرعاة" بالقطعان متمهلين إلى "المرعى", لا يتعجلون المسير كي لا تنهك الماشية, ويديمون مراقبة آخر القطعان التي يجب أن تبقى متلاحقة, فإن تباعد أولها عن آخرها استوقفوا ليجمعوا بين الأول والآخر, حتى إذا وصلوا "المراعى" غرس كل وتد "رسن" دابته في الأرض, أو عمد إلى تقييدها بشد "القيد" وهو قطعة حبل مجدول يوثق طرفاه على معصميها بعد التقريب بين قائمتيها الأماميتين, أو هجرها بواسطة "الهجار" وهو حبل شبيه بالقيد كما "الهجر" يشبه "التقييد" إلا أنه يكون بالوصل ما بين إحدى القائمتين الأماميتين وما تقابلها من ذات الجهة من القائمتين الخلفيتين أو من خلاف, وكذلك يفعلون بالشارد من الدواب, وكل ذلك للحد من حركتها ليثبت "المرياع" بثباتها فلا يضطرب القطيع من حولهما, ونظر "الراعي" لا يغفل عن "رِيَشِها", واحدتها "ريشة" وهي أحد أطراف القطيع, فكلما اتسعت رقعتها صعق لها فانقلبت إليه أطرافها, أو ألقى على الطرف القصي حجرا من "المقلاع", وتلفظ بكسر الميم وإبدال القاف جيما, وهي أداة لقذف الحجارة تتخذ من خيوط الصوف, ينسج أوسطها عريضا بقدر الكف تقريبا ويأخذ اسمه من الشكل فيقال له "كفة", يمتد منها ذراعان مجدولان في آخر أحدهما عروة, يجعل الرامي حجرا في "الكفة" ويجمع الذراعين بيده فيلوح بهما بقوة ثم يطلقهما فيندفع الحجر وتبقى "المقلاع" باليد بواسطة العروة التي تثبت في الخنصر, وتنجذب الماشية لصوت "الشبابة" واسمها مشتق من الشَّب الذي هو النفخ, وأطلقوا عليها اسم "القصيبة" كونها كانت تتخذ من القصب, وهي عبارة عن أنبوب بطول مناسب, يستحدث في نصفها الأسفل خمسة ثقوب, ينشأ اللحن من خلال توافق النفخ في فوهتها مع تحريك الأصابع على الثقوب, وكثيرا ما يكون "الملحاق" عونا للراعي, وهو صبي في سن اليفاع يعمل على "شرط" غير أجر "الراعي".

 
ولا يمكث "الراعي" في "مرعى" واحد وقتا طويلا لأن الماشية تسأم الكلأ والمكان, بل يغير "مرعاها" من فينة لأخرى لتنشط في الرعي, ويتوخي "الراعي" جودة "المرعى" في المكان العذي([1]) من أرض الجلد حيث ثبات الموطئ وجودة النبت, ويتجنب الأرض اللينة التي تذهب فيها قوائم الماشية فتطول أظلافها, ويتحاشى أرض الوعر التي تخشى مسالكها, وعلى "الراعي" أن يكون عارفا بالضار من النباتات التي تفتك بالماشية ومواطنها وأوقاتها ليدفع "رعيته" عنها كي لا تهلك.
ويتشارك "الرعاة" في "المراعي" ويتقاربون في "المبيت" ليأمنوا على أنفسهم وقطعانهم, إذا ابتعدوا عن المضارب, وليتعاونوا في ما بينهم على درء المخاطر وقضاء الحاجات, فيبيت "الرعاة" في أطراف القطعان بعد أن تجمع قريبا من بعضها, أو ربما اختلط قطيع بآخر, وقد يتناوبون السهر إن أوجسوا خيفة, فإن سطا لص أو عدا سبع نبههم نباح الكلاب وأصوات "القراقيع" و"الأجراس" التي تحدث جلبة عند جفالها, أي نفورها من "مراحها" الذي هو معطنها, وعند النشور صباحا تنسل القطعان من بين بعضها ليتبع كل قطيع "الراعي" الذي يتبعه "مرياع" قطيعه, ليتفقدوا "شلاياهم", فمن افتقد منها شيئا "نشد" أي طلب "العوار", وهي الشاة الضالة لدى "الرعاة" الذين خالطهم في "المرعى" أو "المبيت", فإن وجد ضالته أعادها, وإن لم يجدها ربما غرمها.
فمتى حان موعد الورود الذي يتعرفون على وقته بواسطة العصا التي لا تفارق "الراعي", فبقدر انحسار ظلها إلى أصلها كلما ارتفعت الشمس إلى كبد السماء واستطراد فيئها إذا زالت باتجاه الغروب يعرفون المواقيت فيتوجهون بقطعانهم إلى الموارد للورود ومن ثم الصدور.

يعمل "السقاة" على "نشل" الماء من جوف البئر بواسطة "الدلو" وجمعه "دلاء" وهو وعاء اسطواني الشكل كان يتخذ من الجلد وصار يصنع حديثا من الجلود الصناعية, يحكم إغلاق أحد جانبيه بالخصف ويبقى جانبه الآخر الذي يقال له "الفرعة" مفتوحا, ومن جانبي "فرعته" تخرج عروة كبيرة تسمى "العِرقاةْ" ويثبت في أصل أحد طرفيها حجرا يقال له "ثقالة" وتلفظ الكلمة بهمزة ممالة أولها وبالوقوف على آخرها هاء, و"الثقالة" تجذب طرف "الدلو" إلى الماء كي لا يبقى عائما, ويتم نشله بعد امتلائه بطريقة "المتح" أي جذبه للخارج بقوة بإحدى يديه في حين تتلقى اليد الأخرى الحبل لتثبته لحين إلقاء ما تم سحبه ليعاود "الماتح" وهو الذي يباشر نشل "الدلو" عمله من جديد بواسطة "الرِّشاء", ويلفظ بالقصر, حيث يثبت أحد طرفيه في منتصف "العرقاة", ويكون (أي الرشا) إما من خيوط الغزل التي يتم "ضفرها" أي جدلها لتكسبه قوة أكثر, أو تفتل من "المرس" الذي يتخذ من خيوط الليف, وهي أثبت من حبال الغزل إذا تبللت بالماء , ليفرغه "الساقي" في الحوض, إن كان قريبا من البئر, وإن ابتعد قليلا أوصله "الدالج" وهو الذاهب بين "الساقي" والحوض لإفراغ "الدلاء".
فإن نزح الماء عن "مصب" البئر, أي وسطه حيث مسقط السيل إذا أندفق فيه, وصار الماء إلى جوانب البئر, يصير من العسير ملء "الدلاء" إلا بإرسالها إلى الأطراف بتمييح "الدلو" أي قذفه إلى جوانب البئر من قبل "الساقي" بواسطة "الرشا", مما يأخذ وقتا أطول في السقيا, وللتعجيل في الاستقاء ينـزلون "مياحا" أو"مياحة" إلى قاع البئر, يربطون وسطه بالطرف الآخر من "رشا" الدلو, ليمسك به بكلتا يديه من فوق العقدة ويتدرج بالنـزول و"السقاة" يرسلون به على مهل, حتى إذا استقر في قرار البئر سحب "السقاة" الحبل وبدأوا بإرسال "الدلاء" ليملأها "المياح" ويجعلها في وسط البئر كي ينشلها "السقاة" الذين يرسلون الحبل   بعد الانتهاء من الاستقاء إلى "المياح" ليربطه حول وسطه ويخرجوه كما أنزلوه.
وما أن ينتهي "السقاة" من ملء الأحواض حتى يكون "الرعاة" قد حبسوا قطعانهم على مقربة من المورد, فيبدأون بإرسالها "خِزَلا" على قدر استيعاب الحوض, يقال لكل "خِزْلة" وهي القطعة القليلة من الماشية "رسل", حتى إذا ارتوى "الرسل" نحّوه جانبا وأعاد "السقاة" ملء الأحواض من جديد ليعاود "الرعاة" إرسال "الأرسال" حتى تكتمل سقاية كامل القطيع, وفي كل مرة تملأ فيها الأحواض يضاف إلى الماء بعود مغموس شيئا من "القطران", وهو سائل أسود ثخين ذو رائحة زكية يستخلص من شجر الأبهل والأرز, تعتاده الماشية فتستزيد شربا, وبعد أن يرتوي القطيع تسقى الدواب.

وفي أيام القيظ ترد الماشية ثلاث مرات, "صبحة" و"وردة" و"غبقة", تقتصر مع انحسار الحر على "وردة" و"غبقة", وعلى "وردة" إذا رطب الجو.
في موسم الإدرار, يحتلب أصحاب الماشية مواشيهم "حلبة" عند الصباح وقبل نشور القطعان إلى المراعي, وأخرى وقت الظهيرة بعد "الوردة" وقبل "القيلة", وإن قلَّ إدرارها اقتصروا على "حلبة" واحدة إما صباحا أو مساءً, ففي موعد الاحتلاب يعمدون إلى "شَبْق" الماشية, إي إعدادها للاحتلاب بمعاقبة كل رأسي شاتين متقابلتين وربطهما بواسطة "الشِّباق", وهو حبل مجدول من غزل الصوف, في أحد طرفيه "عروة" تستخرج منها "عروة" جديدة عند ربط أول شاتين بعد أن يطوق الحبل عنقيهما, يتم ثني الحبل من أقرب مسافة من "العروة" لإحداث طية يتم إخراجها من "العروة" الأصل لتشكل "عروة" جديدة تستخدم لذات الغرض عند تكرار عملية "الشبق" إلى أن يتم الانتهاء من كامل القطيع لتوضع "العروة" الأخيرة في مقدمة وجه آخر شاة "شبقت" كي لا ينفلت "الشباق" أو يتراخى جراء حركة الماشية, وقد يستخدم أكثر من "شباق" فينشأ عن عملية "الشبق" صفان متقابلان من الشاء متعاقبان في الرؤوس, وتعتاد الماشية "الشباق" لكثرة ما يتم "شبقها" فتتوارد لوحدها وغالبا ما تصطف كما ينبغي.
تبدأ "الحلابات" وهن النسوة اللائي يقمن بالاحتلاب عملهن مع بدء عملية "الشباق", بحيث تجلس "الحلابة" خلف أول شاة تم "شبقها" وتتمكن من "شطريها" براحتي يديها لتهصرهما هصرا لينا ومتتابعا لاستخراج الحليب منهما مصوبة "شخبه" إلى الإناء, وعادة ما يتم استخدام "العلبة" وهي وعاء من ألواح الخشب الصلب توصل ببعضها بإحكام, ويحيط بها طوقان معدنيان من طرفها الأعلى والأسفل, واستخدمت الأواني المعدنية, وكلما امتلأ الإناء أفرغ في وعاء كبير إلى أن تنتهي عملية الاحتلاب ليُبَتَّ "الشباق" بأن تخلص "عروته" الأخيرة من رأس الشاة التي جعل فيه ويسحب من طرفه للخارج لتتابع "العرى" بالانفلات بسهولة فتتفرق الماشية من "الشباق" لتتجمع في "المقيل".
تعد "الحطابات" عدتهن للاحتطاب ليلة يتفقن على موعد الخروج, فإذا كان صباح ذلك اليوم خرجن جماعة للاستئناس والاستعانة ببعضهن, يصطحبن معهن أدوات الاحتطاب, كالحبال لحزم ما يحزم, و"الشلفان" واحدها "شليف" وهو وعاء من النسيج على شكل كيس غير أن فتحته في عرضه يعبأ فيه ما يلتقط مما لا يمكن حزمه بالحبال, ومن أدوات الاحتطاب "القدوم", وهو فأس صغير, أحد نصليه طويل مدبب يستعمل للحفر, وطرفه الآخر عريض حاد يستخدم للقطع, ويتزودن ليوم الاحتطاب ما يكفيهن من الطعام والشراب إذا كان يومهن سيمتد إلى المساء, أو اكتفين بالماء إن كنَّ ينهين عملهن في وقت أبكر, فإن وصلن "محطابهن" تفرقن في "المحطاب" على أن يبقين على مرمى النظر من بعضهن ولا يتجاوز المسافة بينهن مدى الصوت, ليجتمعن عند الإشارة أو النداء.

في ليالي الصيف يستهويهم السمر, فيطيلون السهر, يجتمعون زمرا في بيت أحدهم, يتذاكرون من الأحاديث ما يسري عنهم تعب ذلك اليوم, وفي ليالي الشتاء ينامون غطيطا, بين فينة وأخرى تقوم النسوة بإرخاء حبال البيوت التي تزداد ثقلا مع المطر فتشتد إلى أن تسحب الأوتاد من مغارزها, وإن هبط الثلج على صهوات بيوتهم أداموا إيقاد النار من حطب لا تسري فيه النهار سريعا ليبعث الدخان ليذيب الثلج فيسح من أطراف أروقتها ماءً.
حياة أهل البادية, على قدر ما فيها من قسوة الظروف, وشظف المعاش إلا أن بين طياتها ما يبعث على الحبور.
الكاتب: 
عارف عواد الهلال
© 2024 تطوير وتصميم شركة الشعاع الأزرق لحلول البرمجيات. جميع الحقوق محفوظة