العرس في (تُقبُل) بين الأمس واليوم

بين الأمس القريب واليوم                                                              

تولي المجتمعات بعامة اهتماما خاصا بالزواج وطقوسه، ولا ينفصل هذا الاهتمام عن نشاطات المجتمع الأخرى التي تعبر في كثير من الأحيان عن مرجعيات هذه المجتمعات الدينية أو الثقافية. ويتخذ هذا الاهتمام مظاهر متعددة ومختلفة باختلاف المجتمع والبيئة والثقافة للاحتفال بهذه المناسبة تعبيرا عن الفرح.
ولعل أهم مظاهر هذا الاهتمام تحديد أيام معينة لإقامة حفلات الزواج، وتخصيص أغان تليق بهذا الفرح وتعبّر عنه، وخياطة الملابس أو تطريزها؛ كي تلائم هذه المناسبة، سواء أكانت للعروسين أم لأصحاب العرس، وكثيرا ما يحرص أهل العريس على إرسال (لبسة ) (للعنايا) والمقصود بـ (العنايا) أخوات العريس وخالاته وعماته. وتتكون اللبسة من قطعة قماش سوداء تصلح (شرش) وهي مخيرة إما بتطريزه وإما بتفصيله حسب رغبتها؛ كي تلبسه في هذه المناسبة، إن كانت ممن يلبسن (الشروس) أو قطعة قماش ملونة تصلح ثوبا للحفلة. 

وقد استعاضوا عنها حاليا بتقديم مبلغ من المال كي تشتري ما تراه مناسبا. ويضاف إلى مظاهر الاهتمام السابق تحضير أكلات لهذا اليوم وفي هذا اليوم، والمنسف الأكلة الرسمية للزواج، وهو مكون من الرز واللحم والجميد الذي ينقع قبل يوم وتبدأ النسوة (بمرسه)، وتحضيره، بعد أن يطبخ به اللحم (المليحية) مع العلم أن القرية في السابق كانت تفضل البرغل أو الفريكة أو القمح المجروش على الرز. ومع مرور الزمن أصبحت هذه المظاهر من التقاليد التي لا يجوز الخروج عليها، أو على الأقل يحرص الناس على الاحتفاظ بها، أو بالكثير من تفصيلاتها، أو مفرداتها؛ لأنها تعبر عن هوية هذه المجتمعات ثقافيا خير تعبير، وتميزها عن مجتمعات أخرى؛ فهذه المناسبة، مثلا، فرصة لإظهار مدى التعاون والتكافل في هذه المجتمعات، بما تملكه من إحساس بالمسؤولية تجاه أفرادها، تخصيصا إذا علمنا أن أغلب القرى تقطنها عائلة واحدة أو عائلتان، وعلاقات القربى والمصاهرة هي أساس التعامل في ما بينهم.

 

وفي هذه العجالة سينصب حديثي على العرس التراثي في القرية الأردنية، وفي قريتي (تقبل) تحديدا، وهي تبعد عن إربد حوالي ست كيلومترات، بما يتضمنه من دقة في التنظيم، ومن تنوع في الفعاليات، ومن رغبة وقدرة فائقتين على إظهار الفرح والتعبير عنه. مع الإشارة إلى أن كل ما سأورده هو إما من الذاكرة البعيدة قليلا أيام الطفولة، وإما من الأمس القريب، وإما من الحاضر المعيش.

 

يبدأ الترتيب للاحتفال بالعرس قبل أيام من موعد الزفاف، وتقسّم أيام العرس تقسيما مرتبطا بالفعاليات أو الطقوس التي تمارس فيه كالآتي:
التعليلة:  والبعض يسميه السامر، والبعض يطلق السامر على (الدحية) أو (الجوفية)، وهي بمثابة إعلان عن بداية الاحتفال وتتراوح أيام التعليلة بين سبعة إلى عشرة أيام، إذ يُنصب (بيت الشعر) الذي يحضر عادة من العائلات البدوية التي تستقر في أطراف القرية طيلة أيام الربيع والصيف أو نهاية الربيع وبداية الصيف، ويقدم لأهل العرس إما مجانا، مشاركة منهم في هذا الاحتفال وإما يستأجر إلى أن تنتهي أيام التعليلة. ويكرم صاحب بيت الشعر على مشاركته هذه ومعروفه، بأن يخصص له منسف يصل إلى بيته سواء أحضر إلى العرس إم لا.  كما كان يقدم له مقدار معين من المحاصيل الزراعية مثل:  القمح أو الشعير، أو الكرسنة، وأحيانا يقدم لماشيته التبن الأحمر المفضل للأغنام. وتقام حلقات الدبكة أمام بيت الشعر، وتتضمن: 
حلقات الدبكة للرجال
ومن الأغاني التي تغنى في هذه الدبكات مثلا:
يا زريف الطول وقف تاقولك
رايح عالغربة وبلادك أحسن لك
أو
جتنا رسالة جرحت القلب جرحين
قالوا حبيبك سافر من يومين اثنين
وفي هذه الأثناء تطلق النسوة الزغاريد و(المهاهاة) على العريس، أو على والده، أو على إخوته وربما على إخوانها هي أو قائد الدبكة، أو الذين يشاركون بالدبكة لإثارة الحماس. وبعد الانتهاء من (المهاهاة) تتبعها النسوة بالزغاريد. والملاحظ أن (المهاهاة) فردية يعني امرأة واحدة التي (تتهاهي) ولا يشاركها أحد، وبعد الانتهاء تقوم امرأة أخرى (بالمهاهاة) وهكذا، بعكس الزغاريد التي تشارك فيها أكثر من واحدة. ومن (تهاهي) ليس بالضرورة أن تكون قريبة العريس بل ربما تكون واحدة من المدعوات سواء أكانت من داخل القرية أم من خارجها. فكل من يدعى للعرس رجل كان أم امرأة يشارك سواء أكان بالغناء أم الدبكة أم الزغاريد.
حلقات دبكة للنساء
ومن الأغاني التي تغنى فيها:
مندل يا كريم الغربي مندل
شاقني لي عناقيده مندل
أو
بير الشمالي طافح   كل العرب يردونه
شوقي غزال مصور  ومكحّلات عيونه
دبكة الجوفية:  وتتكون من صفين متقابلين يتبادلان ترديد الأغاني، ويغنى فيها: 
يا بورشيدة قلبنا اليوم مجروح
جرحا عميقا بالحشا مستظل ولها (تكملة طويلة )
أو
يا نجم يا للي بالسما واسمك سهيل
بالله ان جاك الولف دله عليا
دله عليا وابطاقة البيت..
أو
يا طير يا اللي عالغرب رواحي
خذ لي حبيبي مع هبوب رياح
خذلي سلامي للزربف وقله
على فراقه دايم دمعي سواح
وارواح دادا عالحبيب ارواح (هذه لازمة تتكرر)
وأبو شويحية والهب لواحي
واشوف الزين هيك وهيك نازل
قيطان السيف عالسروال نازل
ويتخلل الجوفية رقصة بالسيف بين الصفّين أو بتحريك اليدين للأعلى، وكثيرا ما كانت هذه الأغاني تحمل دلالات متعددة منها:  انتقاد الزواج القسري لابن العم مثلا أو أنّها تحمل بعض الدلالات الوطنية أو القومية، كما استثمر ذلك د. محمد نايل عبيدات في روايته (تغريبة قرية ). وفي بعض القرى الشمالية كانت دبكة (الحبل المودع) المكون من شاب، وصبية، شاب وصبية، وتكون الدبكة مزيجا من دبكة البنات ودبكة الرجال كما في قرى بني كنانة.
أما المأكل والمشرب، فقد كان يقدم في التعليلة الشاي والقهوة السادة والماء فقط.
وفي مرحلة سابقة كانت (الدحية ) من مفردات الاحتفال بالعرس ,التي تتضمن ما يسمى (المحوشاة )سمعت عنها لم أشاهدها. لكن والدتي ووالدي رحمهما الله، وبعض الأخوة والأخوات نقلوا لي عن مشاهد الدحية، فطبعت في ذاكرتي. ويشترك (بالمحوشاة) رجل مع رجل أو رجل مع امرأة، ويسمى كلّ منهما الحاشي، وقد تكون الحاشي امرأة فقط.
وقد تقلصت أيام التعليلة إلى يوم واحد قبل موعد الزفاف وتسمى السهرة، فيقوم أهل العريس باستئجار( شادر) لاستقبال المدعوّين وتقام أمامه حلقات دبكة للرجال وجوفية، وقد تبدلت الدبكة فتأثّرت بالجوبي العراقية وبالدبكة السورية واضحا للكل متابع. أما النساء فأصبحت مشاركتها بالغناء والدبكة أو الرقص لكن داخل البيوت، وليس خارج البيت بالبرندة أو المصطبة القريبة من بيت الشعر كما كان في الأمس القريب. ويقدم في السهرة في الوقت الحاضر القهوة السادة، والعصير، والحلوى، والعشاء أحيانا. وتتضمن التعليلة، أيضا، في اليوم الأخير من أيام التعاليل ليلة (الحنا) فتذهب النساء إلى بيت أهل العروس، وعادة ما توكل مهمة نقش الحناء للعروس للمرأة (المبخوتة) السعيدة مع زوجها لا بل المرأة التي لا يرفض زوجها لها طلبا، كما تقول بعض النسوة أو تعتقد، وهن من يخترن صاحبة هذه المهمة. وفي الوقت الحالي تقوم بهذه المهمة زوجة أخي الأكبر سيما في مناسبات المقربين. ثم تعود النسوة المقربات من العريس لتشارك أيضا في (حنا) العريس بمشاركة الرجال المقربين من العريس في آخر السهرة، ومن الأغنيات التي تقال في هذه المناسبة:
سبّل عيونه ومد ايده يحنّونه
وش هالغزال الذي راحو يصيدونه
***
حنيت ايديّ ولا حنيت أصابيعي
يا محلا النوم بحضين المراضيع
 
يوم (القِرى):  ويقدم للمعازيم طعام الغداء وتتم دعوة كل من شارك بالتعليلة إلى (القرى) وفي هذا اليوم تقام حلقات الدبكة للرجال وللنساء.. ويغلب على هذا اليوم غناء النساء وهن يحضرن طعام الغداء أو تأتي بعض النساء للمشاركة في التحضير والبعض الآخر للغناء، وحين يقدم (القرى) تغنى النساء:
صبّ القرى ياللي معلم عالقرى
وشوف محمد واقف عالقرى
***
حطوا على الباب حارس
ومحمد على الخيل فارس
حطو الباب شبرق
ومحمد على الخيل يبرق
وتغني النساء:
نوينا هالنية راحت هنية
والمقطع السابق قد يغنى في بداية التعليلة أو قبل الذهاب لإحضار العروس. وبعد تقديم طعام الغداء.

حمام العريس:  بعد تناول طعام الغداء يبدأ حمام العريس. يدعا العريس إلى بيت واحد من الأقارب وعادة ما يكون من طرف الأم:  خاله أو خالته؛ لأن الأعمام بالأساس هم جزء من العرس سيما في البيوت القديمة حين كان الأعمام يعيشون في بيت واحد، ويكون البيت مكتظا بالمدعوّين في هذا اليوم، ولا يسمح بإقامة مثل هذه الطقس. ويبقى العريس في هذا البيت إلى أن تأتي العروس وتبدأ الزفة. وقد تلاشى هذا المشهد من الاحتفالات، في ما أعلم.
ويغنى أثناء هذه الطقسيّة:
الليلة ليلاتك يا عريس
واصبر عا غزالك تا يشلح القميص
الليلة ليلاتك محمد يا أمير
واصبر عا غزالك تا يشلح الحرير
الفاردة:  وهي مجموع السيارات التي تتجمّع وتسير في رتلٍ لإحضار العروس من بيت أهلها إلى بيت زوجها أو أهله. كانت الفاردة في السابق قبل يوم الزفاف بيوم واحد وقبل (القرى). إذ تحضر العروس وتستضيفها عائلة من أقارب العريس وتنام عندهم هذه الليلة، مما يتيح لها حضور بعض فعاليات تعليلة اليوم الأخير، والهدف من فصل يوم الفاردة عن (القرى) انشغال أهل العريس بتحضير الطعام ليوم القرى، مما يجعل من المشاركة في الفاردة لإحضار العروس مشقة كبيرة خاصة إن كانت من بلد بعيد. وقبل أن تدخل النسوة إلى بيت أهل العروس تغني:
وسع الليوان يابي فلان (والد العروس أو أخوها )
والفرحة للصبيان والعز لك
وحين تدخل النساء إلى بيت أهل العروس
لينا ياشختوريات مثلا ( وكل عشيرة تغني وتفتخر وفق عشيرتها أو القرية التي تنمي إليها)
لينا فرح جديد وتهلهل علينا
حلفت الناس ما دق القهاوي
واسحن يا ابو فلان والصيت لينا
ولا بدّ من تقديم دبكة أمام العروس ولو لمدة قصيرة.
وبعدها يدخل عم العروس أو خالها ومعه عباءة والد العريس أو أي واحد من أهله؛ لكي يخرجها من بيت أهلها إلى بيتها الجديد، فتغني النساء:
كثّر الله خيركو ويخلف عليكو كثّر الله خيركو
ما عجبنا غيركو بالنسايب ما عجبنا غيركو
حين وصول العروس إلى بيت عمها تستقبل بالزغاريد والمهاهاة:
ومن الأغاني المتعارف عليها:
مشوها عامهلها يا لا لا وغالية على أهلها يا لا لا
ومشوها لا تهينوها يا لا لا غالية على أبوها يا لالا

 
الخمرة:  الخمرة المكونة من العجين المخمّر، وتلصق على ورقة ليمون أو ورقة عنب ثم تلصق على باب دار العم، وربما على باب الدار التي ستسكن فيها العروس. وهذه( الخمرة) مقتطعة من عجين العائلة الخامر. ودلالتها لا تخفى أنها وليدة بيئة زراعية، وفيها طمأنة للعروس أنها جاءت على عائلة لا تخشى الجوع أو الفقر، طالما العجين المصنوع من القمح متوفر.
جلوة العروس أو التجلية:  تبدأ طقوس التجلية أو جلوة العروس وهي من اللحظات المهمة التي تحرص النسوة على حضورها. فمن الممكن الا تذهب النساء في الفاردة، وقد لا تحضر الغداء، لكنها تحرص على حضور هذا المشهد، وهي من اللحظات المهمة. وعادة تتسم بالرزانة ولا تتداخل فيها الأصوات أو الزغاريد.
وتقوم بهذه المهمة المرأة المعروف عنها بالسعادة مع زوجها، أو ذات حظوة عنده، ويشترط فيها أيضا أن تكون من الحافظات للأغاني الخاصة بهذه الطقس أو التقليد.  وتطلب هذه المرأة من العروس الوقوف وأن تضع يديها على رأسها، وتبدأ بالغناء وترد عليها بقية النسوة. كانت والدتي رحمها الله تتولى هذه المهمة وامرأة أخرى من القرية اسمها (أم رياض).
وتبدأ أول ما نبدا صلوا على النبي
وفطومة الزهرا جلوها على علي
 
زفة العريس:  ويزفّ العريس من البيت الذي استحم به وبقي فيه لحين عودة الفاردة وإحضار العروس إلى البيت الذي ستصمد فيه العروس، بيت (الصمدة) وهو البيت الذي يحضّر فيه للعروس والعريس مكان ظاهر يجلسان عليه ويبدوان ظاهرين لجميع من يحضر، حيث يكون الغناء والرقص أحيانا.
ماذا بقي من الطقوس السابقة
على الرغم من التغير الذي حدث على الكثير من طقوس الزواج، إلا أن بعض الأهالي ما زال يتمسك  ببعض التفصيلات السابقة منها مثلا: الحنا: خاصة للعروس، والتعليلة: قبل الزفاف بيوم، وفي اليوم التالي يكون العرس في إحدى الصالات التي باتت منتشرة في المدن والقرى، أو في قاعة أحد الفنادق، ويسبق الذهاب إلى الصالة تجمع السيارات وتسمى الفاردة، وتغنى فيها الأغاني المتوارثة الخاصة بالفاردة مثل:
اللي فرح لينا
يجي يهنينا
أو
ناوينا هالنية ريتها هانية
عرسك يامحمد ريتها هنيه.
كما بقيت العباءة:  التي ترتديها العروس، والملابس التراثية، خاصة النساء؛ إذ تحرص بعض النساء أو بعض الصبايا على لبس الملابس التراثية منها الأثواب المطرزة أو التي تمزج بين العباءة والثوب المطرز أو لبس العرجة أو الشماغ الأحمر المهدب.
كما بقيت الزفة:  التي صارت تتخصص في تقديمها فرق موسيقية شعبية وفق ما يرتضيه العريس أو العروس.
ويلحظ المرء التمسك ببعض الطقوس السابقة في الفقرة النهائية في الحفلات التي تقام بالصلات، أتحدّث عن حفلاتنا، حين يدخل الرجال للتهنئة، بعدها تبدأ دبكة الرجال وعادة تشارك النساء من أخوات العريس، وخالاته، وعماته، وبنات الأخت، وبنات الأخ في الدبكة أو الجوفية. وهذه أجمل فقرة من الفقرات الباقية من عرسنا التراثي؛ لأنها عادة ما تغنى فيها الأغاني الشعبية التي ما زالت حية في الذاكرة.
 
ومما يذكر أنّه في أوسط الثمانينات شاعت ظاهرة تقليص الاحتفال بالزواج، وتشجيع العروسين على الذهاب لشهر العسل والاكتفاء بالتعليلة ليوم أو أكثر. واذكر أن أخي الأكبر واثنين من أخوالي أقاموا تعليلة وذهبوا إلى أوربا لقضاء شهر العسل لكن احتفظوا بالتعليلة. وأجلوا طعام الغداء، والعزومة لحين عودتهم من شهر العسل، ولعلّ السبب في تقليص العرس إلى ما أصبح عليه تغيّر ظروف الحياة، وتوسّع الانشغالات، وتقليل التكلفة الماديّة على العريس وآله، وعلى أقربائه وأصدقائه.

الكاتب: 
 د. خولة شخاترة
© 2024 تطوير وتصميم شركة الشعاع الأزرق لحلول البرمجيات. جميع الحقوق محفوظة