سلطة المعتقدات الشعبية الخرافية
                                                                                     
أقصد بأساطير أمي معتقداتها الخرافية الشعبية التي عشتها معها منذ عمري ست سنوات. وأغلب تلك المعتقدات ورثتها أمي عن أمّها وأمّ أمها وصولاً إلى سيدة الأمهات كلهن" حواء"
وهي معتقدات موروثة أغلبها خاص بالبيئة البيتية المنزلية وبشؤون الأسرة ومستلزمات لقمة العيش. كان أبي أقل اعتقاداً بتلك الخزعبلات؛ لإيمانه الدائم بمبدأ القوة ومفهوم الإرادة، لكأنه ورث هذا المبدأ من مذكرات الحروب الهتلرية ومن طبيعة نشأته الطفولية حين فقد أباه وأمه وهو في عمر سنتين، فتربى على اعتماده على نفسه وقدراته الخاصة مؤمناً أنه عشرون رجلاً في رجل. وقد أدت به هذه النزعة إلى الاعتقاد  بأن الإيمان بالمستحيل هو من شأن الضعفاء، وأن الرجل الرجل ينبغي أن يضع أحلامه موضع التنفيذ أوّلاً بأول، كان شعاره [ احْلمْ ثم طبّق فوراً ] فإن نجحتَ فابدأ بحلم آخر، وإن أخفقت فَحَسْبك لذة المحاولة. ولذا عاش حياته عنيفاً في النهار رومانسياً في الليل. في النهار يده اليمنى فأس يطعن بها الأرض ليزرع، أو بندقية يصطاد بها الطيور ليوفر لنا اللحم، ويده اليسرى خنجر يخيف به الموت أينما استشعره.  أما في الليل وبخاصة عندما ينام الناس ولا سيّما أمي، فتحتضن يداه ناي القصب ويعزف أنغاماً غريبة أشبه بحشرجات الذئاب وأنين النهر وصوت زخات المطر.
 
أمام هذا الرجل الرعويّ الفانتازي كان على أمي – أو هكذا شاءت المصادفة – أن تكون حليفة المعتقدات الغيبية التي تجعلها مطمئنة إلى أن حياتها تسير على ما يرام. وبالقدر الذي كانت فيه مؤمنة بالله حتى في أدق إنجازاتها المنزلية كظهور الشمس في الشتاء خصيصاً لينشف غسيلها، كانت أيضاً مؤمنة وجادة بمقاومة الأباليس وردع الحسد وطرد صنوف الشرور الصغيرة والكبيرة عن طريق الأيقونات والحرز والحجاب والبخور وخلط الملح بالشعير وترديد التمائم المحفوظة صبح مساء، والانتخاء بأسيادها كبار الجان الذين لا يردّون لها طلباً أو رجاء، والتردد على المشعوذات من عجائز النساء، والمهَسْهِسين من الرجال كبار السن ذوي اللحى الطويلة، والأكاذيب الأطول، أولئك أصحاب الذكاء الشرير الذين يجيدون الضحك على النساء بخاصة، والرجال من أصحاب أنصاف العقول. ولا شك أن ذلك سائد في أغلب بيئات العالم الفقيرة المتشظية بالحرمان والعوز ومعاناة الرغيف والملبس والمأوى.

 

 (للحمل) وذلك في إحدى مناطق غور الأردن، فوجئَتْ بي وفوجئت بها، سألتني عن سبب قدومي إلى تلك المنطقة فأخبرتها بأنني صياد، وهذا المشعوذ صديق قديم لأبي. ولما سألتها عن سبب مجيئها أيضاً تلكأت واغرورقت يدها بالدموع، ارتبكت وقالت: لأمر خاص. قلت: ولكنك طبيبة مختصة فما الذي دعاك إلى هذا المشعوذ؟

 

وربما كان صحيحاً أن الإنسان مهما كان عقلانياً وعلمياً فإن ثمة محوجات وضرورات ومنعطفات يأس تدفعه إلى الاحتماء بالشعوذة وطلب الحلول من الشياطين أو الجان أو الخرز أو محترفي الدجل من الأفاكين المخلصين. وهذا يقودنا إلى التوقع الجازم بأن الحقيقة تقول (العقل لا يكفي) ولا بُدَّ من الحدس وردّ المصائب أو النجاحات إلى قوى غيبية أخرى تتحكم بمعتقدات البشر في مواجهتهم لمتناقضات الحياة اليومية. لهذا كله عني سيجموند فرويد عالم النفس الشهير بتفسير الأحلام والتعمق في عالم (الأنا)، وتبعه كولون ويلسون بالبحث في الإنسان وقواه الخفية، ولهذا كله أيضاً التقيت بزميلة [طبيبة مختصة بالأمراض النسائية والعقم] تزور مشعوذاً يدّعي الطب الشعبي وإبداع وصْفات ذهبية صمتتْ لحظة ثم همستْ بحياء [ أنا لا أنجب، عاقر، ولكن عشرات النساء أكَّدن لي أن هذا الرجل لديه وصفة عشبية تنشط المبيض. . أتيت غير مصدّقة أو بالأحرى أتمنى أن أصدّق. . أنت لا تعرف شعور المرأة العاقر إنها تتحالف مع أيٍّ كان لكي تحمل. . لا أدري ما الذي أفعله؟ أريد أن أجرّب مع أنني على يقين من أن التجربة ستكون فاشلة، أنا خجلة من نفسي. أرجوك احفظ سرّي. إن عملي هذا فضيحة أليس كذلك؟] واسيتها بما أستطيعه من مجاملة كاذبة وحزن عميق ودعوت لها بالتوفيق.

 

أساطير أمي
في السادسة من عمري عرفت لماذا تُعلِّق على كتفي الأيسر خرزة زرقاء مشبوكة بدبوس وذلك حين قالت لجارتها: لولا الخرزة لمرض ابني أو مات.
قالت الجارة: الله هو الحامي ثم الخرزة.
سألتُ الخرزة عن طريقتها في حمايتي من المرض والموت لكنها لم تجبْني. في اليوم الأول من المدرسة شاهد أحد المعلمين الخرزة على كتفي فضحك ساخراً، ولحسن حظي كان أحد التلاميذ أيضاً يعلّق في صدره خرزة ذات لون عجيب، فاقترب منه المعلم وقال [ ما شاء الله عليك. . رقيتك واسترقيتك ومن كل عين حميتك ] صار التلاميذ يضحكون ولكني تماسكت وصبرت إلى أن عدت للبيت وأخبرت أمي بما حدث معي، فخبأت الخرزة تحت قميصي.

 

وصلت الصف الثالث وأنا موقن أن سبب بقائي حيّاً حتى ذلك الوقت هو حماية الخرزة الزرقاء. وفي صيف ذلك العام كان ختاني، ملأت أمي وجدّتي الحارة زغاريد احتفالاً بهذه المناسبة القومية، وأذكر أن أمي خبأت الجزء المقطوع مني تحت الزير وقرأت عليه إحدى المعوّذات، وأعتقد أن النمل كان جائعاً فلم تستطع رقيا أمي أن تمنعه من أكل وجبته، فقد تفقدت ذلك الجزء بعد أسبوع فلم أجده.

 

نتشت أمي الخرزة الزرقاء من تحت قميصي ووضعت بدلاً منها خرزة حمراء. فعلى رأي أبي إن الخرزة الحمراء تصفي عقلي وتبعد عني وساوس الشيطان. كان لا بُدّ أن تضيع الخرزة بسبب تعاركي الدائم مع زملائي. وحدث أن وقعت من أعلى شجرة تين فالتوت يدي وسببت لي آلاماً عظيمة، فعجبت أمي كيف لم تمنع الخرزة الحمراء الشرَّ عني، تفقدتها فلم تجدها، غضبت وأخبرت أبي الذي سرعان ما قفز إلى حقيبة قديمة وأخرج منها سنّاً كبيرة وعلّقها على كتفي وهو يقول لأمي: يا عيوش هذا ناب الذيب دافع الشرور. ثم فرك أذني بقسوة وهدّدني إذا أضعت الناب سوف يقلع أسناني بالكماشة.

 

وللحق كانت فاعلية الناب عظيمة فقد غرقتُ في بركة ولم أمت، ووقعت عن ظهر حمار قبرصي ولم أمت وحلمت مراراً أنني متّ فلم أمت. لكنني عندما مرضت وكنت في الصف السادس ملأت أمي الغرفة بدخان البخور وكانت تذرذر الملح والشعير حول عتبة البيت لئلا يدخل الشيطان فيعيق شفائي.

 

ولما شكوت لأمي أن أحد المعلمين يضربنا على أيدينا بقسوة قالت: إذا وضعت دم حرذون على كفيك لن يؤلمك الضرب. اصطدت برفقة زملائي حرذونين في الصباح الباكر ولطخنا أيدينا بالدم وتعمدنا أن نتأخر عن المدرسة ليضربنا المعلم المناوب ونجرّب نصيحة أمي. لكني لسوء حظنا انهال المعلم يضربنا على أقفيتنا وأكتافنا، فخابت التجربة ولم نكررها.
كنت وحيد أمي من الأولاد فما أن وصلت الصف الثامن حتى بدأت تفكر باختيار أو حجز عروس المستقبل، وكانت عينها دائماً على فتاة صغيرة في حارتنا وتتمنى بصوت علني أن تكون تلك البنت نصيبي.

 

استطاعت أمي أن تقنع أبي بأن يحضر لها هدهداً فهو صياد ويستطيع تدبير ذلك. أحضر أبي الهدهد، فمعطت أمي ريشة وخبأته في كيس ورمت اللحم. كانت كل يوم جمعة تعطيني ريشة من ريش الهدهد تضعها في جيبي وترسلني إلى بيت تلك البنت لأحضر إبرة أو فأساً أو أي شيء يكون سبباً لدخولي بيت البنت فأفعل وأعود مسروراً. لكن البنت تزوجت من أول خطيب فخابت تجربة ريش الهدهد.

 

وعندما تزوجتُ قامت أمي بإلصاق قطعة عجين على باب غرفتي الزفافية تيمناً بدوام الزواج وسعادته. وللأسف بقيت قطعة العجين ملتصقة الأمر الذي ترتب عليه استمرار زواجي حتى الآن!!!!

 

وما زالت أمي أطال الله عمرها تمارس معتقداتها على أولادي فحين ترتفع حرارة أحدهم تمسك بكفها حفنة شعير وتقرأ بأسماء الجن أوراداً وتراتيل وهينمات لا يستطيع كبير الأبالسة أن يفك طلاسمها.

 

ثمة عشرات المواقف التي يشترك فيها أغلب الناس في ممارستهم للمعتقدات الخرافية، والطريف أن فئة كبيرة من المتعلمين يعملون بها إذا عجزوا عن رد شر أو طلبوا شفاء مرض عُضال. فالمشعوذون يملأون الأحياء الشعبية وما زالت العجائز تقرأ بالفنجان والكف والودع.

 

بتُّ على يقين أن سلطة المعتقدات الشعبية الدارجة المتوارثة  ربما تفوق سلطة الدين أحياناً وسلطة الطب وسلطة العلم، وذلك لتغلغها في الذاكرة الجمعية والوجدان الشعبي واستمرار توارثها عبر الأجيال ولا سيّما في الأحياء الفقيرة. ومن هنا فإن حاجة البشر إلى معتقدات غيبية خرافية تبدو ملحة عبر الأزمنة، ذلك لأن ما هو غيبي وغامض ومرمّز يبعث على التشويق والتصديق ويدفع الفرد للاستمتاع بالتوقع والتخمين والاتكال على المصادفة والاحتمال. . فهل الإيمان بهذه الخرافات يوفر لممارسها طمأنينة حقّاً؟ أم أنه يؤكد مفهوم فلسفي بأن الكون في جزء من طبيعته طوطمي ما زال مستنداً إلى الفطرية والبُدائية الدوغمائية؟

 

إن سؤال الاعتقاد بجدوى الخرافات سيظل قائماً؛ لأن التخييل طرف ثنائية الحياة (الواقع والخيال) وستبقى الخرافات بقاء الشعر وسائر الفنون التخييلية التي تنجز المشاهد الفانتازية العجائبية التي تمتع الإنسان بسحرها الكاذب. الخرافات كذب ولكن الإنسان كما يبدو يستمتع بممارسته فيكذّب عقله وعينيه ويصدّق لذّته الكاذبة.
 
الكاتب: 
د. راشد عيسى
© 2024 تطوير وتصميم شركة الشعاع الأزرق لحلول البرمجيات. جميع الحقوق محفوظة