الثابت والمتحّول في مناسبات الأعراس الأردنية وطقوسها عبد الله العساف

الثابت والمتحّول في مناسبات الأعراس الأردنية وطقوسها

د. عبدالله العساف*

 

كان الشاعر الإغريقي بِندار مُحقًا تمامًا عندما ذهب في القول إلى أن التقاليد والأعراف تحكم كل شيء، وتستبد في الناس في مطلق سلوكهم وتصرفاتهم ومناسباتهم الاجتماعية. وهي في الحقيقة قد تطول أو تقصر زمانًا أو مكانًا، ولكنها لا تتغير أو تندثر إلّا لكي تُفسح المجال مجددًا إلى سلطة تقاليد وأعراف اجتماعية جديدة.

ومن منظور الأحكام القيميّة، فإنّ ثمة وجهين على الأقل لهذه الأعراف، وجه إيجابي، ووجه سلبي، إذ إنه ليس صحيحًا الذهاب في الاعتقاد أنّ التقليد أو العرف، وهو محلّ اعتراف، وقابل للممارسة أو السلوك من الأفراد، فإنّه بالضرورة يحمل مغزىً أخلاقيًّا أو إنسانيًّا أو قيميًّا جميلًا أو محمودًا بين أفراد المجتمع. فقد تكون التقاليد رغم رسوخها تُجانب الصواب والعقل السليم. لكن أمر المجاهرة في نقدها أَو ذمّها من قبل أفراد قليلين، يكون مغامرة اجتماعيّة كبرى من هؤلاء كونهم يخلخلون اعتقادات المجتمع التي استمرّت أزمانًا طويلة، وأصبحت بالنظر إلى قِدمها تعبّر عن الوضع الصحيح أو التقليد السليم. لكن كوننا نرغب في الشيء وفقًا للتقاليد والأعراف، لا يعني أنّه يمثل استقامة أخلاقيّة أو سلوكيّة، أو يندرج في إطار ظاهرة صحيحة في المجتمع.

 

نسوق في الحديث السابق ونحن في هذه المقالة بصدد التكلّم عن بعض التقاليد والقيم التي أصبحت تستبد بالمجتمع الأردني، لا سيما منها تلك التي تتعلق بطقوس الزواج ومظاهره، والتي تكشف عن مفارقة صارخة بين تقاليد الأمس وتقاليد اليوم.

 

لقد كان في الزمن الماضي الاهتمام بمظاهر الفرح والبهجة في شأن أعراس الزواج، يتخذ شكلًا بسيطًا جدًا، ولكنّه يعكس حقيقة الفرح بالمناسبة، وهو في الواقع فرح تشاركي أو تكاملي بين أفراد العائلة والعشيرة أو حتى البلدة. وقد كان الجميع على قدم المساواة في الوضع الاجتماعي والاقتصادي، إذ لا تمايز حقيقي بينهم، إلّا في صورته الدنيا، الأمر الذي انعكس على بساطة المظاهر المرافقة للأعراس فيما كان الفرح طبيعيًا وصادقًا بالمناسبة، وليس فرحًا مُتكلفًا أو مصطنعًا، وكانت المشاركة تلقائيّة بدرجة كبيرة، كما لو أنّ الجميع كانوا يشعرون أنّ المناسبة تخصّهم على حد سواء. ولذا فإنّ المشاركة لم تكن تأخذ طابعًا رسميًّا كما هو شأنها اليوم، لا يحكمها الواجب الأخلاقيّ والإنساني بقدر ما يحكمها المظاهر الشكليّة، أو تحكمها اللياقات المزيفة والمقنعة.

 

على أنّ الأمر الذي كان يعكس حسًّا تضامنيًّا عاطفيًّا ووجدانيًّا واقتصاديًّا في مناسبات أعراس الأمس القريب في المجتمع الأُردني، هو تلك الروح المبادرة من الأقارب والمعارف والأصدقاء والجيران وغيرهم، في تحمّل جزءٍ من التكاليف المادية على بساطتها، تخفيفًا على العريس وأَهل العريس من التبعات التي تلحق بعد الزواج، من نفقات وديون وغيرها، ترهق كاهلهم، وربما تورث لهم المشاكل.

 

على أنّ التقاليد المستبدّة سرعان ما انقلبت معاييرها في مجتمعنا الأردني اليوم، لا سيما في مظاهر الأعراس. وكان أوّل انقلاب قد حصل في القيم التي يحملها تعبير الزواج والفرح والاحتفال بهما. واختفت تقريبًا تلك التقاليد البسيطة السابقة، وكثيرًا ما يفكّر كثيرون أن الزواج وحفلات الزواج بدأت تنحصر وظائفه في مجتمعنا في ثلاث كلمات، هي (التفاخر، والبذخ، والإسراف)، وجميعها تحمل دلالات سلبيّة لا إيجابيّة، لأنّها تطرّف في السلوك، وتبجّح في التعبير، كأنّما أصبحت الأعراس تنحصر أهدافها في مظهر لقطة فيديو تذكارية وافتخاريّة، أما الرمزيّة العاطفيّة والوجدانيّة والاجتماعيّة والإنسانيّة التي يجب أن ترافق أي مناسبة فرحٍ بزواج يعني بناء مؤسسة جديدة للأسرة، فقد اختفت، خلف بريق "لقطة الفيديو" تلك، ولم يعد أحد يشعر بلذّة المناسبة، بقدر شعوره باحتفالية المناسبة.

 

لقد أصبح الزواج وما يتخلله من أعراس وأفراح مدعاة للإسراف في كل شيء، لا سيما في مظاهر الولائم والطعام والشراب، دعْ عنك "همجية الفرح"، عندما يتخلله إطلاق العيارات النارية بكثافة، وبطريقة أشبه بالهستيريا التفاخرية بين المناضلين في معركة الفرح، ويجب أن لا ننسى الأكلاف الماديّة التي تنفق هدرًا، وتذهب برمزية المناسبة ووهجها ومعانيها.

 

وظهر من بين ظهرانينا من يتخذ مناسبة الأَعراس وسيلة لإظهار تفوقه الاجتماعي والطبقيّ والماديّ، على غيره من الناس، بصورة تثير الريبة أحيانًا، أو تثير الكره أحيانًا، أو تُثير الشفقة في أحيان كثيرة، وإذا اجتمع السَفْه في الإسراف والبذخ، مع الحُمق في التعبير عن الفرح من خلال إطلاق العيارات النارية، فإنّ المناسبة تكون قد فقدت معناها الأصيل، وتحولت إلى بازار رخيص في العواطف الهوجاء.

أما ثالثة الأثافي بالإضافة إلى مظاهر "الإسراف والبذخ" وإطلاق العيارات النارية، في بعض الأعراس الأردنيّة، فإنّها تتمثل في "مهرجان النقوُط". الذي أصبح اليوم أسلوبًا فجًّا، أفسد كلّ رمزيّة ودلالات وقيمة عادة النقوط، في الأعراس الأردنيّة التقليديّة، عندما كانت تجري بين أفراد وعائلات متماثلين تقريبًا أو متشابهين في الوضع الاقتصادي والاجتماعي، إذ لا تفاخر بينهم، ولا إحساس بالمديونية وأعبائها الثقيلة المرهقة. ولا شكّ أنّ "عادة النقوط" في صورته الماديّة، هي في أصلها ومبتدأها تعبيرٌ نبيلٌ عن شكل من أشكال التضامن الاجتماعي الذي يتسابق الجميع، كل حسب طاقته، إلى إظهاره في مناسبة الزواج. ولم تكن تلك العادة تدل بأيّ شكل من الأشكال على طقوسٍ افتخارية مصطنعة، بل حتى مُزِيّفة.

 

لكنّ "عادة النقوط" كما هي في أعراس اليوم في المجتمع الأردني، فحدّث ولا حرج، حيث تُقام لها المراسم الخاصة في مشهدٍ احتفالي مهيب، لكي تدل على قيمة صاحب المناسبة من جهة، وقيمة وسخاء الضيف الذي يدفع "قيمة النقوط" من جهة ثانية، ولا يكتمل البروتوكول الخاص بالنقوط إلّا مع المخرج الذي يقوم بتصوير مشهد النقوط من أوّله إلى آخره، لقطة لقطة، وشخصًا شخصًا. ولا ينسى بطبيعة الحال أن يركز (زوم) التصوير على المبلغ المدفوع نقوطًا، ولزيادة المصداقية أكثر وأكثر يتطوع أحد أهل المناسبة فيدوّن في سجل شرف خاص بالنقوط، أَسماء الأشخاص الذين حضروا حفل الزواج وقدّموا نقوطهم الخاص، من قبيل الأمانة والمصداقية، وحفظ نسخة تاريخية في أرشيف العائلة والعشيرة.

 

وبالنسبة للكثيرين ممن يستنكرون المظاهر الزائدة في المعنى، فإنّ عادة النقوط أصبحت أشبه بأسلوب "القرضة والدين"، فضلًا عن كونها تشكل إرهاقًا ماديًا كبيرًا للكثيرين؛ فمناسبات الزواج أصبحت أكثر من أن تُحصى وتُعد طِوال أـيام السنة.

 

من الصحيح القول بأنّ العادات والأعراف تتغير وتتبدل مع التغيرات الاجتماعية والثقافية وتحولات القيم المعبرة عن هذه التغيرات، ولكن يفترض بها أن تصبح أكثر تهذيبًا ومنطقية وعقلانيّة، لا أن تنحرف عن غاياتها وأهدافها الصحيحة والصائبة. وما أحرانا اليوم أن نعيد التفكير بنظرة نقدية في كثير من سلوكياتنا وتقاليدنا في مناسباتنا، لا سيما في مناسبات الأعراس والزواج.

 

© 2024 تطوير وتصميم شركة الشعاع الأزرق لحلول البرمجيات. جميع الحقوق محفوظة