شيء عن الحكاية الشعبية هشام عودة

تعدّ الحكاية الشعبيّة واحدة من أقدم أنواع السرد في الأدب العربي التي اتخذت شكل القص والروايّة، كما أشارت إلى ذلك الدراسات التي أرّحت للأدب العربي ووثقته، ويمكن القول إنّ هذه الحكاية ولدت في وقت متزامن، أو متقارب، مع زمن ولادة القصيدة العربيّة، إن لم يكن قبلها.

    ومن المؤكّد أنّ الموروث الديني الموغل في القدم، في الحضارات المصريّة والرافيدينيّة والإغريقيّة  وغيرها، ساعد بشكل واسع على تطوير هذه الحكاية، نمطًا وشكلًا وأسلوبًا ومضمونًا، من خلال محاولات رجال الدين ترويج أفكارهم ومعتقداتهم عبر هذا النوع من القص الشعبي، الذي يبدو أكثر إقناعًا لبسطاء الناس، متّخذين من الآلهة أو أنصاف الآلهة أو المخلوقات الغريبة أبطالًا لمثل هذا النوع من الحكايات، التي استفادت من الأسطورة ودورها ومفهومها وسطوتها على العقل البشري، من خلال محاولة اعتمادها نصًّا يملك هالة من التقديس، لذلك ليس غريبًا أن تكون الحكاية الشعبيّة القديمة قد تماهت مع النص الديني، أو أنها استندت إليه في معظم الحالات.

 

   ولم يختلف العرب في حكاياتهم الشعبيّة التي وصلتنا، عن حكايات غيرهم من الشعوب الأخرى، التي حملت كثيرًا من السمات الغرائبيّة في النص والمضمون،  فصار للعرب حكاياتهم التي تناقلتها الأجيال، وما تزال حتّى اليوم حكايات صالحة للتداول، ولعلّ من أبرز هذه الحكايات التي حملت هويّة عربيّة قوميّة موحّدة، حكايات سيف بن ذي يزن، والزير سالم، وتغريبة بني هلال وغيرها من الحكايات.

 

   وأرى من الضروري التوقّف عند هذه الحكايات لتأكيد مجموعة من الحقائق التي تساعدنا في فهم هذا النوع من الحكاية والتعامل معها.      

 

إنّها حكايات لا أب لها، أيّ أنّ الوثائق التاريخيّة التي وصلتنا عبر الأجيال لم تقدّم لنا صائغًا بعينه لهذا النوع من الحكايات، أو صانعًا لها، بعكس القصائد التي ما تزال تنسب حتى اليوم لشعراء موغلين في القدم.

 

ثمّ إنّ تطورًا ملحوظًا حصل على شكل هذه الحكايات وطريقة صياغتها، عبر تداولها على مر القرون، ولعب الخيال الشعبي في كلّ المراحل دورًا بارزًا في صياغتها، بحيث بدا كثيرٌ من أبطالها يحملون صفات خارقة، أو يمثلون بطولات استثنائيّة في حياة الناس.

 

   وفي اعتقادي أنّ شعور الناس بالخيبة تجاه زعمائهم وحكامهم على مرّ التاريخ، وافتقاد عدد كبير من هؤلاء الزعماء لصفات البطولة التي يتمناها الناس فيهم، دفع بصائغي هذه الحكايات إلى خلق نموذج، هو النموذج الذي يمثّل طموحهم، كنوع من التعويض عن واقع مرير، أرادوا الاحتيال عليه باختلاق شخصيات خياليّة، أو إضافة صور جديدة من البطولة على شخصيات تاريخيّة لم تكن في حقيقة الأمر تملك كل هذا الحضور، أو كلّ تلك البطولة.

 

   ويمكن اعتبار مثل هذه الحكايات، التي خضعت لإضافات متتالية من الخيال الشعبي، نوعًا من المعارضة المبكرة لسياسة الحكام الذين افتقروا للبعد الشعبي في علاقتهم مع رعاياهم، إذ حاول الرواة الناطقون بلسان شعوبهم تعويض خيبتهم بخلق الزعيم الذي يحتمون به ويخضعون طائعين لسلطانه عبر خيال الحكايّة الشعبيّة.   

 

إنّ هذه الحكايات صارت ملكًا للأمة كلّها، وصارت كلّ فئه أو جماعة، بغضّ النظر عن الزمان والمكان العربيين، تسعى لإضافة أيّ نصّ أو صورة أو مشهد لهذه الحكايات، بما تعتقد أنه يخدم مشروعها، أو رؤيتها، لذلك صار من الطبيعي أن نرى بعض الاختلافات بين نصوص هذه الحكايات، من بلد عربي إلى آخر، وهذا شيء طبيعي بسبب اختلاف الثقافة والظروف وطبيعة الحاجة التي قادت لاستخدام هذه الحكايّة وإسقاطها على الحاضر، أو من خلال محاولة بناء وعي جمعيّ قوميّ، للتأشير على نوع من البطولات والشخصيات التاريخيّة، عبر روايات شفويّة تسهم في تحصين الوجدان الشعبي وبناء ذاكرة موحدة.

 

   وكانت مثل هذه الحكايات وغيرها، تخضع في القرون الماضية إلى وعي الحكواتي ومزاجه وثقافته، حين كان قادرًا على إضافة مشاهد من خياله الشخصي لهذه الحكايات، بما يعتقد أنه يسهم في تأجيج مشاعر من يستمعون إلى حكاياته أو يشدّهم إلى متابعة مشاهدها، ومثلت فترة حكم الدولة الفاطميّة محطّة حاسمة في تاريخ الحكاية الشعبيّة العربيّة التي تمّ تدوينها للمرة الأولى، بحيث أصبح بين أيدي الناس نصّ مكتوب، الأمر الذي قلص حجم الإضافة عليه، أو تحوير مشاهده باتجاه يخدم البيئة المحليّة.

   لكن الحكايّة الشعبيّة العربيّة المعاصرة التي يتم تداولها في المجتمعات العربيّة، ومنها ما نسميه في مجتمعنا "خريفيّة"، هو نوع جديد من هذه الحكايات، لكنّه نوع ليس منقطع الجذور عن حكايات العرب الشهيرة، إذ يشترك معها في أسلوب القص والإثارة والنص الشفوي وحضور الخيال، لكنّه يختلف في تعدّد أبطال هذه الحكايات، وفي طبيعة لهجتها التي اعتمدت اللهجة المحكيّة، وفي حجم هذه الحكايات أيضًا وفي طبيعة أبطالها ومواضيعها، لكنها في النهايّة تتفق مع الحكايات العربيّة القديمة، بأنّها محاولة للتعويض عن نقص أو التهكم على واقع مرير، أو إثارة النخوة والترويج للأخلاق الفاضلة من خلال الانحياز للخير ضدّ الشر، وانتصار الخير في نهاية كل حكاية.    

 

   ومن الملاحظ أنّ معظم أبطال هذه الخراريف هم من المهمشين، الفقراء والأيتام والأطفال الذين يثورون بطريقة أو بأخرى ضد الظلم وينتصرون عليه في النهاية، وحرص صائغو هذه الخراريف على أن يكون النصر في صفّ هؤلاء، حتّى لو اضطروا للاستعانة بمخلوقات خياليّة أو غرائبيّة مثل الغول والجن وحوريّة البحر وغير ذلك، لتقوية روابط الصمود لدى أبطال هذه الخراريف المهمشين، وفي المقابل كان هناك الأمراء والتجار وزوجات الآباء والسحرة وغيرهم ممن جعلتهم هذه الخراريف رموزًا للظلم أو القهر.

 

ويمكن القول إنّ هذه الخراريف أو القصص، لا تحتمل هي الأخرى، ما يمكن تسميته بهويّة قطريّة، أيّ أنّ الحكاية أو الخريفيّة المتداولة في الأردن وفلسطين، سيجد الباحثون أنّ لها حكايات شبيهة في تراث أهل اليمن والعراق ومصر وسوريا والمغرب العربي، وإذا وجدت اختلافات فهي أيضًا محدودة، ربما جاءت بسبب اللهجة أو الظروف الاجتماعيّة أو الحاجة المحليّة، لكن إطار الحكاية ومضمونها ورسالتها يكاد يكون متشابهًا في معظم الأقطار العربيّة، ثمّ إنّ الدارس لهذه الحكايات سيكشف دون عناء أنّها حكايات تدعو إلى الخير والفضيلة دائمًا، وهي تسعى إلى خلق مجتمع متوازن، يدين الشر والجريمة والظلم، ويعلي من شأن الأخلاق الفاضلة التي تدعو للخير و الصلاح.

 

   من هنا يبدو السؤال منطقيًّا: هل نحن بحاجة إلى توثيق الحكاية الشعبيّة وتدوينها؟، وبعيدًا عن الخوض بالتفاصيل، فإنّ الإجابة يجب أن تكون بالضرورة، نعم، لأننا ما زلنا نعتقد أنّ هذه الحكايات هي نوع أصيل من الثقافة الشعبيّة العربيّة التي لا غنى عنها، وتستطيع تقديم قراءة حقيقيّة عن الحياة السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة للمجتمع الذي يتبناها، والزمن الذي قيلت فيه، خاصّة أنّ عددًا كبيرًا من هذه الحكايات، ذهب صائغوها إلى تطعيمها بشيء من الواقع، من خلال إيراد أسماء وتوصيفات في ثناياها، مثل الأمير، التاجر، الصياد، المختار وغير ذلك، فيما ذهب آخرون إلى الإشارة إلى أسماء مواقع جغرافيّة معروفة لدى متلقي هذه الحكايات، مثل المدن والقرى والجبال والبساتين وغيرها، لجعلها قريبة من أذهانهم واستيعابهم.

 

  لكنّ السؤال يظلّ قائمًا: من يملك القدرة على توثيق هذه الحكايات، ومن يملك القدرة على روايتها، لأنّ رواية مثل هذه القصص والحكايات والخراريف قد تختلف في بعض تفاصيلها، من راو إلى آخر، ومن قريّة إلى أخرى، مما يجعل مهمّة أيّ باحث يتصدّى لتوثيق هذه الخراريف مهمّة صعبة، لكنها في جميع الأحوال مهمة وطنيّة وقوميّة نبيلة، ونعرف جميعا أنّ هناك مجموعة من الباحثين والأكادميين الجادّين قد تصدّوا لهذه المهمّة، في غير قطر عربي، وقاموا بتوثيق عدد كبير من هذه الحكايات التي باتت مهدّدة بالاندثار، بسبب رحيل رواتها من آبائنا وأمهاتنا وأجدادنا وجداتنا، وعدم اهتمام أطفالنا بهذا النوع من الحكايات، بسبب سطوة وسائل الاتصال التي أبعدتهم عن خراريفنا الشعبيّة.

© 2024 تطوير وتصميم شركة الشعاع الأزرق لحلول البرمجيات. جميع الحقوق محفوظة