صناعة النحاس في مصر د. مصطفى يوسف

 

كانت روايات الأديب المصري العالمي نجيب محفوظ أكبر تجسيد لمصر الفاطميّة وأحيائها، خاصّة حيّ الجماليّة (مصر القديمة) هذا الحي الذي ينتهي  (بحي النحاسين).. وسبب تسمية هذه المنطقة بحيّ النحاسين هو أنّ تجّار النّحاس منذ العصر الفاطميّ كانوا يتركزّون فيه لبيع وتصنيع أواني المطبخ ، وكانت يرتبط بالأواني النحاسية التي كانت جزءًا لاغنى عنه في كل بيت مصريّ في ما مضى ، خاصّة في جهاز العروس التي كانت تتباهي بين الناس بما تمتلكه من أوان نحاسيّة ، ومن أطباق وفناجين قهوة وصوان، وكانت الأسر إذا مرّت بضائقة ماديّة باعت نحاسها، كما كانت مهنة مبيض النحاس من المهن المزدهرة على مدى سنوات طويلة.

 

                         

 

 

 

 

ومهنة النحاس هي فنّ من الفنون القديمة، التي تعتمد على الدقّة والمهارة والذوق الرفيع بالإضافة إلى قوّة الملاحظة في جميع مراحل التصنيع، وتعتبر خامة النحاس، سواء المصري أو المستورد، مادّة لها طواعية في التصنيع وتعطي نتائج مبهرة وجميلة. والمشغولات النحاسيّة  تخطف العين عندما تقع عليها؛ فلا تستطيع أن تقاوم جمالها وبريقها ولمعانها، ولا تملك إلا أن تتقدّم نحوها معلنًا شراءك لها مهما كان سعرها لتضعها كقطعة ديكور في منزلك تحمل رائحة الماضي العتيق، هذا هو الحال عند تجوالك في سوق (النحاسين) العتيق في قلب القاهرة الفاطميّة، على مقربة من مسجد الحسين بن علي.

وقد استمدّت هذه السوق تسميتها من شهرتها بتصنيع وتلميع وبيع الأدوات النحاسيّة بأنواعها المختلفة وأشكالها، وكل ما يتعلّق بهذا المعدن الثمين، الذي يتوفر في صورته الخام، إلى جانب إتقان الصنّاع المصريّين لصناعته، والنقش عليه، بل وضع تصميمات زخرفيه ذات أبعاد جماليّة مميزة ، ولا تزال بالسوق القديمة رغم تراجع استخدام الأواني والقدور النحاسية تجذب زوارها الهادفين إلى اقتناء التحف والانتيكات النحاسية، ولكن مع فارق بسيط هو أنّ زوّارها في ما مضى كانوا من البسطاء من المصرين فقط، لكن اليوم أصبح زوّار السوق من علية القوم. ومن السائحين الأجانب بعد أن تحوّل النّحاس وارتبط بمفهوم الوجاهة الاجتماعيّة.

          

ومن المثير أنّ الحركة التجاريّة في أسواق النحاس ومتاجره تنشط بشكل ملحوظ في أيام شهر رمضان المبارك؛ ففي السنوات الأخيرة أصبحت أواني النّحاس قطع ديكور لها بريقها الخاصّ الجاذب في الشهر الكريم؛ فهي رمز للتراث والأصالة الإسلاميّة.

والمشغولات النحاسيّة هي تعبير عن الديكور الشرقيّ، حيث تقبل عليها بعض الفنادق الكبرى، وربّات بيوت الأغنياء  لإشاعة جوّ مختلف خلال ليالي رمضان، فتزيّن أركان الفنادق والمطاعم والمنازل بقدرة الفول النحاسيّة، وأواني الزرع، وأطقم الشاي المكونة من الصينية النحاسية الشهيرة والبرّاد والأكواب، أو بفناجين القهوة وبرادها

( البكرك). وهو ما يجذب الكثير من الأجانب والسائحين.

والمتجوّل بين (البازارات) ذات الطابع المميّز في حيّ الحسين في شارع المعز لدين الله ( النحاسين سابقا)، وسوق خان الخليلي، سيجد أنّها تتيح للسياح الأجانب أحجامًا مختلفة من  التحف والأنتيكات والأواني النحاسيّة، بينما يتبارى السائحون لشراء هذه التحف أو حتى التقاط الصور التذكاريّة بجانبها.

كما أنّ هناك اتجاهًا آخر بدأ يظهر في سوق النحاسين، وهو لجوء بعض الورش والصنّاع إلى صناعة الإكسسوار والحلي والديكورات من النحاس ، وهو اتجاه تزعّمه بعض الشباب من خريجي الجامعات، ثم ما لبث أن  انتشر بكلّ الورش بسبب رخص وبساطة هذه الإكسسوارات، حيث يمكن تصنيع طقم كامل من الحلي بالنحاس، ويكون سعرها( 500 جنيه)، لكنّ سوق النحاسين يعاني كسادًا في البيع؛ وذلك للعديد من الأسباب التي منها ارتفاع سعر النحاس المستورد، وغزو الأواني المصنوعة من الألمنيوم والاسيتانلس، مما سبّب اختفاء أواني الطبخ المصنوعة من النحاس، وأمام هذا الارتفاع تحولت قطعة النحاس المصنعة إلى قطعة من التراث لا يشتريها إلا الأغنياء.

 

 

© 2024 تطوير وتصميم شركة الشعاع الأزرق لحلول البرمجيات. جميع الحقوق محفوظة