العادات والتقاليد الشركسية د. عوني تغوج

الموطن الأصلي للشراكسة هو الأجزاء الممتدة على طول السفوح الشمالية لجبال القفقاس بين البحر الأسود وبحر قزوين، عاشوا هناك آلاف السنين حتى تعرّضت بلادهم لهجمة استعماريّة روسيّة، دارت بينهما حروب امتدّت لأكثر من مائة عام، خسر الشراكسة خلالها أكثر من 85% من عددهم وأنهكت قواهم فاستسلموا للقيصر الروسي في أيّار 1864م آملين أن يحظوا بشروط مقبولة تتيح لهم العيش على أرضهم، لكنّ القيصر الروسي أصرّ على تهجيرهم من بلادهم لأنّه كان يريد أرضًا بلا سكّان. اتّفقت غاياته مع غايات الدولة العثمانية التي استقبلتهم لتجنيدهم في جيوشها ولاستغلالهم في استصلاح الأراضي في مناطق  مختلفة من الأراضي التابعة للدولة العثمانيّة، فأسكنت غالبيتهم في أواسط تركيا وأرسلت عددًا منهم إلى بلاد الشام ومنها الأردن التي وصلوا إليها ابتداءً من العام 1878م فسكنوا عمّان ووادي السير وناعور وجرش وغيرها من المناطق، للشراكسة كما لغيرهم من الأمم عادات وتقاليد توارثوها عبر آلاف السنين، ولكلّ عادة أو تقليد عندهم قصص ومرجعية تاريخية.

 العادات والتقاليد عند الشراكسة

     يتلازم مصطلح العادات والتقاليد فلا يكاد يُذكر مصطلح العادات إلا مرتبطًا بمصطلح التقاليد، فنقول العادات والتقاليد. وكثيرًا أيضا ما يتلازم معهما مصطلح الأعراف والقيم، فنقول مثلا الأعراف والتقاليد والعادات والقيم أو العرف والعادة، ونلاحظ أنّ هذه المصطلحات جميعًا وإن كان لكل منها مدلول خاص تشكّل في مجموعها ميكانيكا  الحياة الاجتماعية التي تقرر طبيعة العلاقات الاجتماعية في المجتمعات المختلفة، وهي عند الشراكسة مجموعة دساتير عرفية غير مكتوبة كانت تُسيّر المجتمع وتُنظّم شؤونه بشكل دقيق تُعرف عندهم باسم الأديغه خابزة، سارت على أسسها المجتمعات الشركسية حتى بدايات القرن العشرين، وأهم الخطوط المميّزة لهذه الدساتير ( العادات والتقاليد )عند الشراكسة:

1 – الاحتشام والتواضع والعفاف.

2 – التناهي في اللطف والأدب واللباقة.

3 – تقديم الأكبر سنّا والضيف والنساء.

الاحتشام والتواضع والعفاف

     يعدّ التواضع والاحتشام والصبر والتسامح من القيم الروحية للإنسانية جمعاء، وإن كانت معامل تركيب هذه الصفات تختلف من أمّة لأخرى، فعند الشراكسة يعدّ تفاخر الشخص بأعماله أو الحديث عن نفسه من الأمور المنافية للخلق، فهم يتحاشون مدح أعمالهم، فلا يذكر أحدهم أعماله البطوليّة في الحرب، ولا يُمجّدها لاعتبار ذلك نقيصة، كما لا تُمجّد البطولات عندهم إلا بعد وفاة أصحابها أو تقدّمهم في االشيخوخة، ولا يُسمح للشعراء بذمّ المنافس أو الخصم.

 

     يتميّز الشركسي بهدوئه وقدرته على التسامح، فمراعاة عزّة نفس الآخرين عندهم واجبة، وعلى الرجل أن يتحاشى إحراج الآخرين، فإذا قابل مسيءٌ المساء إليه مصادفة فعليه الابتعاد عنه، وعليه إذا التقاه في الطريق العام أن يفسح له المجال، أمّا إذا التقاه في مجلس فعليه ترك المجلس في الحال.

 

     وعلى الفارس تحمّل الالام برجولة، فلا يشتكي ولا يتحدّث عن جراحه أو ألمه، بل يحاول جهده استقبال عوّاده وتقديم واجب حسن الاستقبال والترحيب بهم مهما كان سوء وضعه الصحيّ. وعلى الشباب والفتيات تسلية المريض طوال فترة مرضه بإقامة حفلات السمر في بيته.

    

المرأة

    للمرأة في المجتمع الشركسي مكانة مرموقة، فهي سيّدة البيت بلا منازع وهي ملكة المنزل تديره بوعي واقتدار، ولربّة المنزل منزلة خاصة فتقوم باقي نساء العائلة باستشارتها في كل صغيرة وكبيرة، فهي المسؤول الأوّل عن إدارة المنزل في كل المناسبات، وهي صاحبة المشورة الأولى في انتقاء زوجات الأبناء وأزواج الفتيات.

 

     على الرجل أن يكون مؤدّبًا في تعامله مع الزوجة، وعند الشراكسة قصص كثيرة تتحدّث  عن التصرّفات التي تُعبّر عن كرم الأخلاق عند الرجال والنساء على حد سواء، فإذا ضرب زوج زوجته أو قذفها بكلام ناب أصبح موضعًا للسخرية، ومن امثالهم: الرجل الذي  يضرب زوجته نكرة والرجل الذي لا يعرف المزاح مجنون، ويقول مثل آخر: الشهم من يلاطف زوجته والمخنّت من يتطاول عليها.

 

     احترام المرأة واجب مجتمعي فمن أعيب الأمور المشاجرة والمشاحنة وتبادل الشتائم بحضور المرأة، وكلمتها أمر مطاع حتى في ساعات الغضب، وعلى الرجل أن يحترم وجود المرأة، فإذا ما حدثت مشاجرة أو قتال ووضعت المرأة يدها على غطاء رأسها وقالت: عجبًا ألا يوجد لهذا الغطاء احترام؟ كفّ المتشاجرين عن اللغط، وهي قادرة حتى على إيقاف معركة بين عدوّين متقاتلين وذلك بمجرّد رميها غطاء رأسها بينهما.

    كانت المرأة الشركسية تدخل مجالس الرجال بعد إلقاء التحيّة، و لها أن تدلي برأيها، وهي فارسة وللنساء سروج خاصة بهن لا تزال موجودة حتى الوقت الحاضر.

 

    أمّا الفتاة الشركسية فتكتسب حقوقًا خاصّة عند بلوغها سنّ الرشد، فيصبح من حقّها أن تحضر الأفراح، ولها الحقّ في أن تكون لها غرفة خاصّة تستقبل فيها من تشاء من الشباب بحضور شقيقتها أو صديقتها - وذلك مع مراعاة حسن الخلق وحسن التصرّف – حتى تتعرّف الى من يتقدّم لخطبتها ولتتفحّص طبائعه وخلقه.

 

    وكما للمرأة مكانة في بيتها، لها مكانة خاصة في المجتمع، فقد كان لزامًا على الرجال أن يقفوا احترامًا للمرأة، وهذا واجب على صغير السنّ والكبير، فحتّى الرجال المتقدّمون في العمر ممن تصل أعمارهم إلى الثمانين ينهضون واقفين بكل وقار إذا مرّت بهم امرأة، وعلى الفارس أن يترجّل إذا التقى امرأة في الطريق العام حتى تمرّ السيّدة، أمّا إذا التقى بها في منطقة نائية فعليه أن يترجّل عن حصانه وأن يوصلها إلى حيث تريد وهو سائر على يسارها بينهما الحصان احترامًا لها.

     مع كل هذا كانت أعباء المرأة كثيرة متعدّدة، فهي التي تخيط ملابسها وملابس الرجل والأبناء ، وهي التي تدير شؤون المنزل، وشؤون الممتلكات على تعدّدها: البقر والماعز والخيل والخدم، وميزانيّة المنزل، وغيرها من الأعباء.

مبدأ احترام الكبير

    احترام الكبير عند الشراكسة واجب مقدّس لا يمكن تجاوزه، ويتعرّض من يسيء لكبير السن بعقاب يُقرر في اجتماع عام وتُفرض عقوبة مناسبة للإساءة. لا يحقّ للفتى الشركسي الجلوس أمام والده، كما لا يجوز له الجلوس أمام أخيه الأكبر، ولا مشاركة الكبار في أحاديثهم، وإذا كان هناك اجتماع للكبار لا يجوز للشباب رفع أصواتهم في الحديث، كما تجب عليهم الإجابة بتواضع وأدب عن أسئلة الكبار.

 

         مكانة الكبير محفوظة بغضّ النظر عن الجنس أو المكانة الاجتماعية، فكبير السن مقدّم في المجالس على غيرهم بغضّ النظر عن مكانتهم الاجتماعية أو وظائفهم أو مراكزهم. وفي المقابل فإنّ التواضع أمام الكبار واجب على الصغار ويعتبر التباهي وأيّ حديث يقصد فيه مدح الذات خرقًا للأديغه خابزة (العرف الشركسي)؛ فلا يجوز للصغار وضع اليد في الجيب أمام الكبار ولا الوقوف المنحنى ولا التدخين أو مضغ البان أو حكّ الأنف؛ لذا فإنّ كبار السن إذا تحدّثوا فإنّهم يتحدثون بثقة لعلمهم أنّ كلمتهم ستجد آذانًا صاغية واهتمامًا من قبل المستمعين.

 

     وهكذا نرى أنّ للعمر عند الشراكسة مكانة سامية وعلى الشاب، بغضّ النظر عن نسبه وأصله ومكانته الاجتماعية، أن يقف احترامًا للمسنّ ولو لم يكن يعرفه، وعليه أن يُخلي له مجلسًا ويقدّمه ولا يجلس حتى يأذن له الكبير بذلك، كما أنّ عليه الصمت والهدوء والإجابة عن أسئلته باختصار واحترام، ذلك أنّ كلّ ما يفعله تقديرًا لكبار السن يزيده شرفًا واحترامًا. ومن أمثالهم في هذا المقام: من كانت خصاله تحية واحترام الكبار نمت عنده أربع خصال : طول العمر وصفاء العقل والمجد والقوّة.

 

مبدأ إكرام الضيف

     حق الإجارة للمستجير عند الشراكسة منفصل عن الضيافة عندهم؛ فالضيافة تختلف عن الإجارة، فهي عبارة عن استقبال الضيوف واستضافة الزوّار والمارة (عابري السبيل) الذين يتوقّفون للراحة أو للمبيت بغضّ النظر عمّا إذا كان من المعارف أو كان غريبًا.

 

     كانت العائلات الشركسية على اختلاف مستوياتها الاجتماعية تبني بيتًا للضيافة منفصلًا عن بيت العائلة يُخصّص لاستخدام الضيوف، وكانت الغاية من فصل بيت الضيافة تأمين راحة الضيف، وعادة ما يحتوي بيت الضيافة على منضدة وسرير وسجّادة وإبريق ماء وحمّام وبعض الآلات الموسيقية. تبقى أبواب بيت الضيافة مفتوحة ليل نهار حتى يستطيع عابر السبيل دخوله دون استئذان صاحب البيت، لذا كان لا بدّ من توفير مؤونة دائمة في المضافة.

 

     كان الشراكسة يتحاشون سؤال الضيف عن خصوصيّاته أو عن سبب زيارته أو أيّ سؤال يمكن أن يتسبّب في إحراجه، وذلك لثلاثة أيام يمكن للمضيف  بعدها أن يسأل ضيفه عمّا يشغل باله، وبم يستطيع خدمته، وفي كل وقت الزيارة لم يكن الضيف يُترك دون جليس، فيزوره الجيران والمعارف والأصدقاء، وكان من عادة الشراكسة أن يقوم المضيف بدعوة الجيران والأصدقاء والمعارف ممن يرونهم مناسبّا في العمر لمجالسة الضيف، وكان على المضيف أن يقيم حفلات سمر تحتوي على الرقص والغناء وألعاب التسلية ومسابقات الفروسية، وعادة ما يّتبادل في مجالس الضيف الشعر والغناء.

 

    وفي المقابل لم يكن للضيف الحق في التدخّل في أيّ شأن من شؤون عائلة المضيف، ولا الخروج من بيت الضيافة إلا لأمر موجب، وكان عليه أن يعرف مدّة الضيافة فلا يطيل ولا يغادر بسرعة حتى لا يحرج مضيفه. وكانت المضافة جزءًا أساسيًّا من مكوّنات البيت الشركسي، ففيه تُسرد الأخبار ويُتغنى بالبطولات، وفيه يتبادل الحاضرون إلقاء قصائد الشعر والغناء، وتّعزف فيه الموسيقى وتُقام حفلات الرقص والألعاب الترويحية والمسابقات على أشكالها المختلفة، وهكذا كانت المضافة مدرسة الشباب التي يطلّون منها على العالم ويكتسبون المعارف والقيم والمثل.

   الخطيفة

     وهي مغايرة في مفهومها وأسلوبها وغاياتها عن مفهوم الخطيفة في المجتمع العربي، فعند الشراكسة الخطيفة: اتّفاق بين الشاب والصبيّة على الزواج شرعًا وقانونًا، يكون سببه الأساس تسريع إجراءات الزواج واختصارها، أو إخطار الأهل أنّها اختارت هذا الرجل  ليكون زوجًا لها، ولا تتم الخطيفة إلا بالطريقة التالية: يتّفق الشاب والصبيّة على موعد للخطيفة فتخبر الصبية صديقة لها أو أكثر، وفي الموعد يأتي الشاب برفقة مجموعة من الأصدقاء ذكورًا وإناثًا لمنزل الصبيّة لاصطحابها إلى منزل والديه أو إلى منزل وجيه من الوجهاء الشراكسة، وبمجرّد ركوبها العربة يطلق أصدقاؤه عيارات نارية إعلانًا للحدث، وعند وصولها إلى المنزل يسارع صاحب المنزل إلى تشكيل وفد يذهب إلى منزل الصبية يعلمهم بالأمر ويسعى إلى الحصول على موافقتهم على اتمام الزواج، ومن ثمّ تجري مراسم الزواج كما هي العادة في المجتمع الإسلامي، أمّا الشاب فيلجأ إلى منزل أحد الأصدقاء يبقى فيه حتى تتمّ كلّ المراسم ولا يلتقي بالصبيّة أثناء ذلك إطلاقًا.

 

الزي الشركسي

اللباس القومي للشراكسة وأهم ما يميّزه الأناقة والاعتماد على التطريز بخيوط الفضة والذهب، يتكوّن لباس الرجل من بنطال يضيق عند الساق ويُشدّ بشريحة تحت القدم، وحذاء من الجلد يصل إلى ما تحت الركبة، وبلوزة أو صدريّة ذات ياقة مرتفعة ورداء من الجوخ الأسود أو الرمادي ويُزيّنُ منطقة الصدر جيبان مزركشان بخيوط من الذهب أو الفضّة وهما في الأصل جرابان لتخزين العيارات النارية ، ويُشدّ في منطقة الوسط بنطاق من الجلد تُعلّق عليه القامة (الخنجر الشركسي)، والنطاق والخنجر مزينان بخيوط من الفضة أو الذهب، أمّا غطاء الرأس فهو القلبق الظاهر في الصور المرفقة.

 

   هذه جوانب من العادات والتقاليد التي حكمت حياة الشراكسة آلاف السنوات، وتعرّضت في العقود الأخيرة لهجمة العولمة التي قضمت جزءًا منها، وقضمت تكنولوجيا العصر بآلاتها وأجهزتها المتعددة جزءًا آخر، فخسرت المعركة أمام التطوّر الذي ألمّ بالعالم كلّه، شأنها في ذلك شأن كلّ المجتمعات التي خسرت أجزاءً من هويّتها وغلبت عليها سمات الحضارة الكونية الجديدة.

 

© 2024 تطوير وتصميم شركة الشعاع الأزرق لحلول البرمجيات. جميع الحقوق محفوظة