شعبي بالفصيحة
أحمد كناني[1]
لم ينتبه لها أحد في ذلك الصباح ... كعادتها نهضت من فراشها الذي لم يحُم حوله طائر النوم في الليلة الفائتة ، صلّت وابتهلت إلى الله أن يرد الغائب ، عبرت الحوش الواسع الذي تعطّر برائحة الميرمية ... لم ينتبه لها أحد حين رشت حفنة من الشعير لدجاجاتها وأطعمت البقرة الهزيلة التي لم تعد تمنح ما يسدّ حاجة الصغار ... أما الحمارة العجفاء التي اعتادت النهيق كلما رأتها معلنة عن احتفالها بوجبة صباحية من العشب الجاف فلم تكترث بمرورها الأمر الذي لم تنتبه له الحاجة زهية هي الأخرى على غير عادتها ... بيدها اليمنى سحبت الحبل الذي سيغلق باب الحوش خلفها ، أما يدها اليسرى فقد أمسكت بقوة وبشيء من الحنان على شريط أخضر من القماش حرصت على انتقائه من أثمن قماش البيت وأكثره نظافة ... لم تنسَ أن تخرج من الحوش برجلها اليمنى ، ذكّرت نفسها ألّا تعبر من ساحة القرية كي لا تضطر لإجراء حوارات اضطرارية لا تحرص على إقامتها اليوم على غير عادتها ، ماذا لو سلكَت طريق عين العرايس وماذا يهمّ لو كانت ستتأخر في الوصول إلى الشيخ نمر ، سيقدّر ظرفها فهو طيّب القلب ونصير الضعفاء وهي لا تعرف من هو أكثر ضعفاً وربما أكثر استحقاقاً لبركات الشيخ نمر وتعاطفه منها . ارتجف بدنها واقشعرت .. أما شعر رأسها فقد شعرَت به وقد توثّب وكاد يخرج من أطراف منديلها الذي تلف به شعرها بحرص كعادة النساء في القرية ، بسملت وانحنت حتى قبّلت شاهد القبر وجثت على ركبتيها وبكت ... لا أحد يستطيع أن يؤكد سبب بكائها ... أهو الخوف في حضرة الشيخ أم هو الرجاء بعودة الغائب ؟ ولكنْ حتى أقلّ أهل القرية إيماناً بكرامات الشيخ نمر لا يستطيع البوح بعدم جدوى زيارته والتوسل إليه بما هو أهله ، مثلما لا يستطيع إنكار الحكايات الكثيرة التي اعتاد أهل القرية سردها كلّما ذكر الشيخ نمر وحتى الشيوخ الأقلّ مكانة منه كالشيخ عويس .
ظلّت الحاجة زهيّة تبكي حتى اطمأنّت إلى حتميّة تعاطف الشيخ معها .. اعتدلت في جلستها دون أن تأتي بما يمكن أن يشعر الشيخ بعدم استحقاقها لنيل كراماته، فمسألة احترام الشيخ والمبالغة في التذلل إليه مسألة لا بدّ منها كما يقول العارفون من أهل القرية الذين طالما لجأوا إلى شيخهم وأسبغ عليهم كراماته وساعدهم ، والذين طالما اتهموا المشكّكين من زائري الشيخ الذين لم يحظوا بكراماته بأنهم لم يفلحوا في استعطافه وإظهار ما يليق بمقامه من احترام . كان عليها أن تتفوق على خوفها وتربط شريطها الأخضر إلى غصنٍ من أغصان شجرة الدّوم التي نمت في منتصف قبر الشيخ وشربت من ماء عينه كما اعتاد أهل القرية أن يقولوا .. ارتجفت يدها اليمنى غداة همّت بربط الشريط .. هي الآن تعلم سرّ خوفها و ربّما سرّ خوف القرية التي طالما ارتجف رجالها من لحظة كهذه وإن كان الرجال قد مارسوها بحكم الحاجة الماسة إلى كرامات الشيخ وربما بسبب تندر النساء والصبية بحكايات الخائفين من الرجال وكم هي كثيرة . أحسّت بحبيبات العرق الباردة وقد تيبّست فوق جبينها أما ريقها فبالكاد استطاعت أن تبتلع ما تبقى منه في حلقها ... جزمت أمرها وأظهرت رباطة جأشها ... ربطت الشريط الأخضر على غصنٍ من أغضان شجرة الدّوم ، تذكّرت غداة قال لها العارفون بطباع الشيخ نمر أنّه لا بدّ من إحكام عقدة الشريط جيداً حتى لا يظلّ عرضةً للرياح وربما للمغامرين من أهل القرية الذين قد يقوم أحدهم بحلّ عقدة الشريط غير آبهٍ بكرامة الشيخ ولا بمصير عودة الغائب . بهدوء الخائف نقلت نفسها من منتصف القبر باتجاه الشاهد ،صارت قريبة من رأس الشيخ حيث صار بإمكانه الآن أن يستمع إلى شكواها ... تنهّدت بما يشبه الشهقة ثم أخذت تتمتم ببكاء الراجي : (( بسم الله يا سيدي . بسم الله من خاطرك يا سيدي ... جيتك راجييتك ... سائليتك بالله الّلي أعطاكْ والّلي خصّك وعَلّاكْ ... ردّ ليّه الغايب ولا تشمِّتْ بيِّه العدا والقرايبْ )) ظلّت هناك تنوح وتولول حتى اطمأنّت إلى أنّها لم تترك من توسلاتها شيئاً ، أمّا الدموع فقد ظلّت تسيل وتسيل حتى في طريق عودتها إلى البيت ظهيرة ذاك اليوم .