لا تقفُ وظيفة المثل الشعبيّ عند التّصنيف الأوّل، بل تتسع لأدوار كثيرة تتّصل بالتّشريع والعبرة والتربية، فهو بمثل قواعد السّلوك في الثواب والعقاب والزهد والتعزير.
وتكمن أهميّة المثل في غياب قائله، ما يمنح مثل هذا الفن نفوذًا وسلطة تعبر عن المجتمع ووجدانه وعقله.
كما تتجلّى أهميّته في الجماليات التي تنطوي عليها نصوصه، إذ تّتسم ببلاغة الاختزال والكثافة والمفارقة والتضاد والشمول لكلّ مراحل الحياة.
ولعلّ الأهمّ الأكثرَ وضوحًا، هو خاصيّة التداول بين فئات المجتمع كلّها دون استثناء.
مصادر المثل
يتغذّى المثل من عدد من المصادر المتنوّعة التي تتّصل بالحكاية والأسطورة والشّعر والنّصّ الدينيّ والحكمة ممّا يمنحه ثراء معرفيًّا واجتماعيًّا قادرًا على التأثير وإحداث المطلوب منه بوصفه رسالة.
ولقد لعب المثل دورًا مهمًّا في التربية والتعليم، وتقديم العبرة، والتقويم في السلوك، وتناول العديد من الأبعاد الثمانية عند الإنسان، ولم يقف عند البعد العقلي، بل تناول البعد البيولوجيّ من خلال الصحّة، والاجتماعيّ، والنفسي، كما تناول المراحل الثمانية من عمر الجنين إلى الكهولة.
فيقال: الديك الفصيح في البيضة يصيح، ويقال: الطبع تحت الشروح، ابنك على ما ربيته وجوزك على ما عودتيه.
وهذا يشير إلى اختلاف الدارسين في ما يتعلّق بتعديل السلوك، فهنالك الكثير من الدارسين الذين يقولون إنّ قدرات الإنسان تولد معه، وهي موجبة، وإنّ التّأثير فيها محكم نظريًّا، ولكنّ بعضَ هذا التأثير مجرد.
وهناك من الدارسين من يرى أنّ السلوك قابل للتطوير وفق برامج التدريب، كما يتطوّر وفق المشاركة الاجتماعية، وهنا نذكر من المثل: العلم في الصغر كالنقش في الحجر، ولقد عدت الاحتمال عن ذلك الاختلاف في أنّ الإنسان يولد بالفطرة، أو أنّه صفحة بيضاء يمكن تشكيلها وفق الشروط الاجتماعيّة.
وربط المثل السلوك بالوراثة يقول: (وردة من زردة) وربّما يخالف المثل نظرية سيجمود فرويد المعروفة التي يقول فيها: إن غالبية مفاهيم العقل تتأسس في السنوات الخمس الأولى؛ فالطفل يمكن تعديل سلوكه من خلال التربية، أما الرّجل فيتأسّس سلوكه على العادة.
ويقرّ المثل الشعبي بصعوبة التربية لإدراكه أنّ النفس الإنسانيّة مليئة بالأسرار، وهي تحتاج لصبر ومعرفة وتحديدًا عند الذكور، وهنا يقول المثل: (تربية الصبيان مثل قرش الصوان)، ويحذّر المثل من التمادي في متابعة كلّ صغيرة وكبيرة عند الأطفال، يخوض تجربتهم أيضًا، وثمة نظريات كثيرة تقوم على منح الطفل حريّته في اختيار وسيلة نموه الطبيعية، وأنّ على الآباء لعب دور المساعد في النمو بتقوية شروطه، وهنا يقول المثل: (الولد ولد ولو كان قاضي بلد)، و (قاضي الأولاد شنق حاله)؛ لأن عالم الأطفال، لا يمكن سبر أغواره.
ويقابل الأمثال السابقة القول: (الهمال بزين الرجال)، بمعنى أنّ ترك الطفل على فطرته وخياراته هو الذي يجعل منه رجلًا.
ويتأكّد مثل هذا في الحياد الذي يبنيه الأهل من خلال إتاحة المجال للفتيان للتعبير عن ذواتهم فيقال: (إن طلعت لحية ابنك زين لحيتك).
وينسحب ذلك على الأدوار الاجتماعية وتداول السلطة التي تنطبق على الأجيال، فيقال: (لكل زمان دولة ورجال).
ويعول المثل على الخبرات الاجتماعية في المعرفة، والوعي، فيقال: (المجالس مدارس)، ويقال على دراسة الموقف قبل إدلاء الرأي: (قيس قبل تغيص).
أما عن الإفادة من تجارب الآخرين فيقال: (لغوص بشارب غيره)، و (الأم اللي ربّت مش اللي رضعت، أو اللي جابت) ويقال عن توظيف الحواس: (عين الحر ميزان)، ويقال عن اللغة المشتركة والتفاهم: (ابن بطني يفهم رطني).
وأختم هذه الإطلالة بمثل متداول في العراق كثيرا: (أبو المثل ما خلّا شي ماقاله) للدلالة على أنّ التجربة الإنسانيّة بكل تفاصيلها مشمولة بالأمثال الشعبيّة.