من الأساليب اللغويّة للأمثال الشعبيّة الأردنية
إعداد أ. د. هاني العمد
التعبير المثلي شكلٌ قديمٌ من أشكال التعبير الشفهي في حقل التواصل الاجتماعي وتبادل الثقافة بين الناس. والمثل يظهر في كل عصر، وينبتُ في كل مكان، ويتردد يوميًا على ألسنة البشر، وله صياغة مميزة. ويختلف في تعبيره عن أساليب الكلام المعتاد، أو أي أسلوب من أساليب الأدب الشعبي.
عَرّف علماؤنا في الماضي المثل، ولا سيما أولئك الذين اهتموا بشكله ومحتواه وتمثيله للقضايا من مثل (المبرِّد) وغيره. واختلفوا في تناولهم المثل من زواياه المتعددة. وعلى كل حال يتضمن المثل معنى القدوة أو العبرة أو العظة. وقد يرتبط المثل بقضيّة، لأن الناس أرادوا أن يجعلوا القضايا مقرونة بعواقبها. أو قد يعني المثل الوجود الحسي أو الظاهر. وعلى هذا يتخذ المثل نهج المحاكاة بالحكمة.
يتميز المثل بخصائص متعددة تتوزع بين اللغة والأدب والفن وتكون شرطًا أساسيًا له:
من هذه المزايا والصفات:
إيجاز اللفظ: فالمثل صيغة لغويّة تميل إلى الإيجاز والقصر. وهو زبدة اختبار طويل، مفرغة في قالب صغير، وكلمات معدودات بصياغة اقتصادية. ولهذا دلالته عند الألسنيين. والمقصود هو التعبير عن الفكرة في أضيق حيز ممكن. و هناك أمثال من كلمتين وثلاثة كلمات وأرابع وخمس وست ألخ...
والصفة الثانية: إصابة المعنى، وهي شرط من شروط بقاء المثل وتداوله وتناقله بين الناس. وهذا يعني أن المثل يجب أن يعرض الحال في صورة حسيّة يعرفها الجمهور.
والصفة الثالثة: للمثل، الشيوع والانتشار على ألسنة الناس. ولا يصير المثل سائرًا أو موروثًا في آيّة لغة إلا إذا توافق ومزاج البيئة. ويُضرب المثل لدواعي الحاجة إليه، وفي مجالات متشابهة لمورده الأصلي. ويعدُّ المثل بالنسبة للعامّة، وللخاصّة كذلك، دستور حياة، لأنّه يتناول كافّة المواضيع التي يحتاجها الإنسان. وهو أكثر انتشارًا بين القرويين وسكان الريف بعامّة، والطبقات الشعبيّة في المدن بخاصّة.
والصفة الرابعة: أنّ الأمثال تعبير عن فلسفة الأجداد وتجاربهم ومعارفهم ومنطقهم ومواقفهم ونظرته إلى العالم والطبقة والمجتمع. وهذه المنزلة تدعم إمكان انتقال مضمونة من عصر إلى عصر.
والصفة الخامسة المجانسة الصوتيّة وحسن الوزن للمثل. فالجملة المثليّة غالبًا ما تكون مقفاةً ومتناغمة، وتتوافر على السجع والتضاد والمفارقة. وبعض الأمثال تتوافر على صياغة عروضيّة. وتنسجم وعروض الخليل.
والخصائص السابقة تتكامل بعضها مع بعض، وتتفاعل لتؤلف معًا عناصر المثل وتكوينه، وتجعل منه عِلْمًا مستقلًا وظاهرة متفردة، من حيث الشكل والمضمون والشيوع والدوام.
أنماط الأمثال وصيغها:
الأنماط اللغوية: تكتسب الأمثال أهميّة خاصّة بالنسبة لهذا الموضوع لأنّها تكشف لنا عن جوانب مهمّة من مكوّنات الذهنيّة الشعبيّة. ونجد من خلالها هذا الإنسان غير المتعلّم ينبض بوجدانه وبعواطفه، ويعبّر عن قناعاته ومعاييره ومثله التي تشكَّل نظرته إلى الحياة. وهي تركِّز على علاقات التباين أو اللقاء أو والتجاوز بين الواقع والمثل الأعلى.
وأول ما يلفت نظرنا هو أنّ الأمثال تتّجه إلى مقارنة الأشياء بمثالها الأعلى. وقد يكون ذلك بسبب تطلّع العقليّة الشعبيّة إلى المثاليّة، أو ربط الواقع بالمثل الأعلى. وهذا يعني التطلّع إلى حجم الحياة نفسها، وإلى نموذج واقعي يمكن تحقيقه، بحيث يكون في الغالب من التجربة والعمل، أيّ من اتصال الإنسان بالأشياء، وسلوكه تجاهها. وهذا الواقع يتطلب الحديث عن المنشأ الواقعي للمثال، أيّ التجربة الواقعيّة.
وهذا التجاذب مع الواقع لا يعني أخذ الواقع على علّاته، وإنما إجراء اختبار فيه على أسس محددة، انطلاقًا من المزاج الشعبي، وتظهر واقعيّة المثال من ارتباطه بظاهرات طبيعيّة أو مجتمعيّة أو إنسانيّة محدّدة. ويفصح النص عن هذا الارتباط باللجوء إلى الحالات التاريخيّة والجغرافيّة والأسرويّة والتجارب الفرديّة، وإلى الظواهر التي تحدث في الواقع الحقيقي المعيش.
وتتضح لنا جملة هذه الأمور من الأمثلة التي نستشهد بها خلال تحليلنا للأنماط اللغوية. لأنّ واقع الحال يدلّ على أنّ المثل من التمثيل والتماثل، أي الذي يُضرب لشيء فيجعله مثله ليكون فيه القدوة والعبرة.
ومن الأنماط اللغوية:
أ. النمط القائم على المبالغة والاستحالة: والمبالغة سمة واضحة من سمات التعبير المثلي. والأمثال، التي تستخدم هذا النمط القائم على المبالغة تعتمد صيغة أفْعُل التفضيل، تتصف بالمبالغة من مثل:
أبردْ من طينة الشتا([1])
وهنالك أمثال تقوم على المبالغة مثل:
ما بتتِكحَّل العورَه ون القاضي مِنِصْرف([2])،
وكذلك:
ما بشبع لو هَرِّيت عليه من الروزنه([3]).
وكثير من الأمثال تستعمل ما النافيّة من أجل التركيز على موضوع الاستحالة والامتناع. وسنتناول هذا الموضوع فيما بعد.
وقد تعتمد بعض الأمثال على المبالغة في التشبيه، ورسم صورة مضخّمة. والقصد من هذه المبالغة بيان مقدار حال المشبه من القوة والزيادة، مثل:
مِثِل البِسِّه بسبع ترواح([4]).
وقد تلجأ الأمثال إلى المبالغة في النقد، وتركّز على السلبيات والتناقضات والمفارقات، وتدخل الأرقام في بعض الأحيان لتعني المبالغة من مثل:
ألف عين تبكي ولا عين أمي تدمع([5])،
وكذلك:
ألف زغروته ما جوزن عريس([6]).
وهذا يعني أنّ المبالغة والاستحالة تزيد المعنى وضوحًا وتكسبه تأكيدًا، وقد تدفع المبالغة إلى التخيل الذي يحفز الإنسان إلى الفعل أو يؤثر في النفس.
ب. النمط القائم على المفاضلة والمقابلة والموازنة
لعلّ هذا النمط القائم على المفاضلة والمقابلة والموازنة، من أكثر الأنماط شيوعًا في الأمثال للاستدلال على كثير من المعاني. ويُسهم في التعبير عن نسق القيم الشعبيّة، والتواصل القائم بين الواقع، والبعد عن الواقع. وشغف الناس بالموازنة بين الأمور، والمفاضلة بين الأشياء التي لها درجات متفاوتة معروفة، وهو من الأساليب الراقية. ويدلّ هذا التفاوت على قدر من علاقات الاتفاق او التعارض أو التنافر بين واقع الحال والمثال الأعلى والنموذج، الذي لا بدّ أن يكون واقعيًا، ويمكن تحقيقه، لأنّه مستمد من صميم الحياة، ولأنّه حادث واقعي. ومن أجل تحقيق المفاضلة والكشف عن التجاوز، تلجأ الأمثال إلى صيغة أفعل التفضيل كما في المثل:
ما أعزّ مِنِ الولَدْ إلا وَلَد الولَدْ([7]).
وقد تكون الموازنة بين أمرين أو وضعين ليس بينهما تطابق، وقد يكون أحدهما أفضل من الآخر أو أسوأ. وتدخل في هذا السياق أفعل التفضيل كذلك مثل:
بَلا أهْوَنْ مِنْ بَلا.. ([8])
وقد تستعمل صيغة خير مثل:
خير الأمور أوساطها([9])،
وكذلك:
خير مَالَك ما نِفْعَكْ... ([10])
كما تلجأ الأمثال إلى صيغ المقابلة أو المفاضلة بمفهومنا اللغوي، وتبرز علاقات الاتفاق والتطابق والاستواء والمماثلة بين الواقع والأنموذج، وفي هذا المعنى تظهر كاف التشبيه، مثل:
كَمَا الحايفْ كما المحيوف كَمَا الجوز اللي حاويها([11]).
كما تلجأ الأمثال إلى الأداة التي تدل على المماثلة، فتستخدم لفظة: مثل أو مثلما وزي مثل قولنا: مثل العتال ما بعرف ربّه إلا تحت الحمل([12])،
وكذلك:
مثل اللي يتهاوشوا ع سَبَقْ خيل العدوان... ([13])
وكذلك: مثلما تراني يا قَبيلْ أراك([14])،
وزي الحصوه في الزربول([15]).
وكذلك:
زي القط ع الحيطان بنط، عسكريّة ما يلبس: ومال دولة ما بحط([16]).
وقد تستعمل صيغ المفعول المطلق، مثل:
أُرْكُضْ ركض لوحوش غير رزقك ما بتحوش([17]).
وصيغ المعادلة:
المال نديد الروح([18]).
إلى جانب هذه الدرجات المتنوعة لأشكال المقابلة والمفاضلة والموازنة تقوم الأمثال برصد المتناقضات التي تشتمل على خواطر الحياة وأنماط السلوك البشري، فتكشف عن عوالم من الثنائيات الخلافيّة أو المفارقات أو المتضادات المتصارعة في الحياة. كما تبيِّن علاقات التعارض والتمايز الكائنة في كافة مستويات الوجود
مثل: اهل بره يطرون أهل جوه([19])
وكذلك: أوشم الحماوات الخالات والعمات([20]).
بلوجه آمراه وبالقفا مذراه([21]).
بليلة عرسي وجعني ضرسي([22]).
جوّزناها تا نخلص من بلاها رجعت هي وضناها. ([23])
وتفصح الأمثال عن التناقضات بأساليب متنوّعة. فقد تقابل وتوازن بين النقيضين:
لسان طويل وباع قصير([24])..
أو السخرية: ياهملالي يا إعبيد عيد... ([25])
والتعارض بين المواقع والمواقف:
فقير وبمشي مشية أمير([26]).
وكذلك: فاره ما وسعها خزقها دسوِّ وراءها مرزبًّه([27]).
أو عن علاقات التمايز الاجتماعي:
حيِّد عن الراس واضرب([28]).
وكذلك: العين ما تعلى ع الحاجب([29]).
وهي قيم اجتماعيّة ونماذج معرفة يصعب على الإنسان تجاوزها، أو غض الطرف عنها.
ج-النمط القائم على التشبيه:
يقوم المثل على عنصر التشبيه، ويتسلل هذا التشبيه إلى معظم الأمثال، ذلك أنّ الأصل في المثل هو التشبيه والتصوير. ويذهب كثير من الباحثين إلى أنّ المثل لا يحتمل التحليل والتعليل، بل ينطلق من الرؤيّة والمشاهدة، والتوجه نحو الواقع المعيش، وتجسيم الأمور العقليّة وتشخيصها، وإلى تبنّي الرّمز الحسّي مع الرؤى التأملية:
الدنيا سلالم بتطالع وبتنازل([30])
وكذلك: الدنيا مثل النوريّة بترقص لكل واحد شوية([31])،
وكذلك: الرجال صناديق مقفلة([32]).
وكذلك: المغالطة: من أي ولد يا بلد... ([33]).
وهكذا فالأمثال تنحو نحو القريب في التشبيه، على المعنى البعيد الذي يصعب تخيله عند الكثير من الناس. كما تميل إلى أخذ الصور الظاهرة المألوفة للأشياء، لأنّ النفس البشريّة تطمئن إلى المحسوس أكثر من المجرّد، ومع ذلك، فهذا لا يعني أنّ الأمثال تخلو من التشبيه المجرّد، فهناك كثير من هذا اللون في الأمثال. فالتشبيه يقرِّب صورة المجرد. ويكسبه وضوحًا، وينقله من العقل إلى المحسوس.
وتعبِّر الأمثال عن علاقات المشاركة بين المشبه والمشبه به باللجوء إلى جملة من الأدوات التي تدل على المماثلة، فتستخدم في كثير من الحالات صيغة (مثل)، كما شاع في كثير من الأمثال:
مثل اللي رعى لخواله([34])،
وكذلك: مثل اللي بعلمها ابغيمه([35])،
وكذلك: مثل اخياطة أم نصر: إخياطة الصبح وافتاق العصر([36]).
وتُستخدم الأمثال للنقد والإرشاد والتعليم، وأظهرت كثيرًا من المهارة الفكريّة في استنباط التشابيه والصور، وارتبطت بكلّ أبعاد التراث الشعبيّ، وبكلّ أشكال التجارب الإنسانيّة والوقائع الاجتماعيّة والتاريخيّة.. فالتجارب التاريخيّة من مثل:
مثل حكم قراقوش([37]).
وكذلك: يا صبر أيوب على بلواه([38])
وكذلك: ابو زيد اسمر وثناه أبيض([39])...
ومن عالم الحيوان: قام الدب تا يرقص كتل له سبع تنفس([40])،
وكذلك: اللي ما يعرف الصقر يشويه([41]).
وكذلك: ربيع البل إطلاها وربيع الخيل احذاها([42])
وكذلك: الخيل الأصايل تلحق بالتالي([43])،
وكذلك: بقر الدير ابرزع الدير وغدة تسطح الجالين([44])...
هذا إلى جانب أمثال الطقس وأمثال المهن، وأمثال بعض الفئات الشعبيّة، وغيرها كثير.
وهذا يعني أنّ الأمثال ولدت من رحم الأرض ومعالم الطبيعيّة والتاريخ والجغرافيا ومظاهر حياة الباديّة والريف والمدن، وأسهم الحرفيون والصناع والعمال والمزارعون في ولادة الأمثال التي لها علاقة بهم وبأعمالهم، وتشتمل على معان متنوعة، ويجتمع فيها أكثر من غرض وهدف.
النمط المشهدي الساخر
يظهر هذا النمط أكثر ما يظهر في الأمثال التي تستخدم أسلوب الحوار والنقاش والجدال. وفي هذه الأمثال تتحول الأفكار إلى تمثلات وصور حسيّة. وقد تتحول إلى ما يشبه القصّة أو حوادث تدعو إلى الضحك، وتُمهِّد للهزل والتسلية.
وغالبًا ما يتضمن الحوار قولًا وجوابًا:
قالوا للبغل: مين أبوك؟ قال: الحصان خالي([45])
أو يبدأ بكلمة (مين) كما في المثل:
مين اللي يدافع عن العروس؟ قال: أمها وخالتها وعشرة من حارتها([46]).
أو كلمة (شو) كما في المثل:
شو أحلى من العسل؟ قال: خل ببلاش([47]). أو كلمة قال أو قالوا،
كما في المثل: قالوا: طلّق أم حسن وخذ أم حسين! قال الله يلعن أبو الثنتين([48]).
وكذلك قال له:
بتعرف تسرق؟ قال له: بعرف. قال له: بتعرف اتخبي؟ قال: لا: قال له لا بيك ولا بسرقتك([49])...
وما إلى ذلك (انظر هذه الصيغ في مجموعة الأمثال الشعبيّة الأردنية).
وعادة ما يطرح الشطر الأول من الصيغة الحواريّة قضيّة أو خبرًا أو طلبًا أو دعاء أو أمنيّة أو نصيحة. في حين يقوم الشرط الثاني من الحوار بالرد على القضية؛ مستنكرًا أو مفسرًا أو مقومًا أو مبررًا أو موافقًا.. ويعكس الجواب ردود الفعل إزاء القضايا المطروحة، وبين وضعيّة المخاطب أو مقدار الحالة أو ماهيّة الحالة أو الموقف. ومهما كان الجواب، فإنه يوضّح العرف الاجتماعي السائد في المجتمع إزاء القضايا المثارة.
وفي النص الحواري نجد نماذج بتضمنها النقاش، فثمة ذكر لله سبحانه وتعالى، والرسول محمد والنبي عيسى عليهما السلام وشخصيات تاريخيّة، مثل: عنترة وفرعون وجحا.. وهذه الشخصيات وغيرها تعتبر في الأمثال حَكَمًا وخصمًا، وهذا يطال الأفراد والهيئات الثقافيّة الاجتماعيّة المختلفة كالنَوَرْ والأكْرَاد والدروز. أو تمثل الحالات الشاذة، أو ما يدور بين أفراد العائلة الواحدة، الأمر الذي يدلّ على التقييم الشعبي للأوضاع الاجتماعيّة والاقتصاديّة والنفسية.
ومن يستعرض بعض الأمثال الحواريّة يلاحظ أنها تتضمّن موضوعات ذات صلة بالشهور والظواهر الطبيعيّة والرياح والهواء والحيوانات والنباتات وغيرها، ويذهب بعض الباحثين إلى أنّ العنايّة بمثل هذه الأمثال يدلّ على اتصال بعض الأمثال بالميثولوجيا والحكايات الخرافية. وقد انطلق الناس منها، وتعرّفوا على ما يحيط بهم ليصلوا إلى الحكمة، بصرف النظر على استعمال الرمز، وسلطة الرقابة الاجتماعيّة، التي تمنع في كثير من الأحيان التصريح، بل تلجأ هذه الفئات إلى التلميح.
كما يذهب بعض الباحثين إلى أن مثل هذه الأمثال الحواريّة قد تكون من الأحاجي أو أجوبة عن لغز. فالحكمة الشعبيّة على ما يبدو قلَّدت بعض الألغاز والأحاجي في مجالات التسليّة والتعبير والترميز، واستعانت بأساليبها.
كما يمكن رد بعض هذه الأمثال إلى الفكاهة أو المفارقة. إذ تعطي بعض الأمثال شيئًا من ألوان المرح، وتدعو إلى الخروج عن المألوف والتقليدي وأجواء الجد والرصانة التي تغلف الحكم والمواعظ عادة. وإذا كانت الفكاهة قد طغت على طبيعة هذه الأمثال إلا أنها مليئة بالسخرية والتهكم، وتفتح المجال أمام مواقف محزنة ومضحكة في الوقت ذاته، وتسعى إلى التأثير عن طريق استعمال أسلوب المفارقة.
الصيغ اللغويّة في المشاهد الساخرة:
للصيغ اللغويّة دور هام في إنتاج المعنى والتأثير الجمالي والتاثير الوجداني. وتتنوع الأمثال في صيغها، ولكن يظل المضمون بدلالته وغايته واضحًا في بنية المثل. ومن أبرز الصيغ المعروفة:
أ-صيغة افعل التفضيل:
هذه الصيغة شائعة في الأمثال سواء أكانت فصيحة أم عامية. وتستخدم في الجملة المثليّة للمبالغة في التشبيه، أو للإشارة إلى الحالات التي يرقى فيها الواقع، فيتجاور المثال أو النموذج، ويُعتمد عليها أحيانًا للمقابلة أو للمفاضلة بين أمرين أو وضعيتين. وما يجيء على وزن افعل في الأمثال يجعل لبعض الصفات الإنسانيّة أو لبعض الحالات النفسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة أهميّة خاصّة.
ومن أمثال الطبيعة: أبخس من فلاحة لب([50]).
ومن أمثال المشاعر: أطول من شهر الصوم([51]).
ومن الأمثال المكانية: أبيض من ملح اصدم([52]).
واصدم اسم مكان في الغور الجنوبي.. وقد تجمع هذه الأمثال بين الإيجابيّة والسلبية.
ب-صيغة الأمر والنهي:
وهناك صيغة الأمر والنهي التي تأتي في المثل بقصد الطلب والنصح والإرشاد، نحو:
إبْعِدْ عن الشر وغني له وهات فاس وقني له([53])،
أو بدافع التحذير والرفض والتخيير والترهيب:
لا تكون راس ترى الراس أشد الأوجاع([54]).
ومن أمثلة التحذير وهي كثيرة: لا تقع بوجه حوت تراه يبلعك([55])..
وشيوع الأمثال التي تتخذ صيغة الأمر والنهي للتأثير، وطغيان الجانب الإرشادي والتقويمي.. مما يعني أنّ الأمثال هذه أريد منها أن تحقّق الأغراض التعليميّة والتهذيبيّة والأخلاقية.. هذا إلى جانب أنّ الأمثال هذه أريد منها تعديل أخطاء السلوك. وهذا يعطي الأمثال سلطة على الأفراد، وبالتالي تظهر قوة الجماعة.
ج-صيغة الإخبار
كثير من الأمثال تحمل صيغة الخبر، وتجمع بين المألوف والمعروف والمتعارف عليه، وتشمل وجوه الحياة كافّة. وصيغة الخبر تحمل وظيفة تعليميّة، إذ تقوم بمهمّة نقل ثقافة الشعب وخبرته بأسلوب واضح. فيقال:
عادتك وإلا استعدتيها طول عمرك وانتي فيها([56]).
وقد تخبرنا الأمثال عن حوادث وقعت في الماضي. مثل:
زغر زغرة البشلك([57]).
والبشلك قطعة نقد عثمانيّة كانت تساوي خمسة قروش، ثم أصبحت بعد خروج الأتراك لا تساوي أكثر من فلسات معدودات.
وهي تسجل كل ما يتصل بالحياة العامة من معتقدات وعادات وتقاليد ومواسم دينيّة وفصليّة وتصرفات شعائريّة، وما إلى ذلك. وهناك بعض الأمثال التي تعتمد على الاستنتاج أو الاستدلال بأدلّة برهانيّة، بحيث تشكِّل أساسًا للمنطق، مثل:
الله ما شافوه بالعقل عرفوه([58]).
وتنحو بعض الأمثال منحى الإقناع والمصداقيّة أو طلب مشاهدة الحقائق والتجربة. كما تنحو بعضها نحو المخالفة والعناد:
منقوله ثور يقول احلبوه([59]).
د-صيغة الاستفهام أو الاستخبار
تأتي الجملة المثليّة بصيغة الاستفهام أو الاستخبار، ويكون المعنى تقريرًا وتعجبًا، مثل:
شو فهم الحمير أكل الزنجبيل([60]).
أو على سبيل التوبيخ والاستنكار، مثل:
شو عمل الغني؟ هد وبنى([61])
أو على سبيل الاحتجاج والاستياء، مثل:
أهلك اللي اختاروك مش اللي باعوك([62])،
أو استحالة تحقيق أمر من الأمور مثل:
لا تقول فول تاتحط بالعدول([63]).
وتستعمل الأمثال هذه الصيغة لشرح بعض المواقف وتوضيحها وبيان مفهومها، أو للكشف عن الحال أو الصيغة التي يمليها الفرد:
كيف ينام البدوي والعسل فوق راسه([64]).
وبعض هذه الأمثال تفسّر قضايا الجهل والغباء وسوء الإدراك. كما يتخذ هذه اللون طابع اللوم والإدانة. وهذه الأمثال التي تستعمل صيغة الاستفهام تبيَّن نمط التوجيه والإرشاد والنقد الاجتماعي. إذ يقدم بأسلوب يتراوح بين اللوم والتوبيخ والمديح والترغيب.
صيغة الدعاء:
تبدأ هذه الأمثال عادة بذكر الله، كما في المثل:
الله مع الضعيف تايلحق القوي([65]).
ومن الملاحظ أن بعض هذه الأمثال يتضمّن مصطلحات تعبيريّة في الدعاء واللعن والتمنّي:
الله يزيدنا غُفُل([66])،
والاعتزاز بالشخصيّة، مثل:
الله خلقنا وكسر القالب([67])،
والمصائب عندما تلحق لمن ليس طرفًا فيها:
الله يرمي الدهايا بوجه المفاليح([68])،
وللتخفيف من المصاب:
الله يساعد أهل الطرّه([69])..
وتحمل الأمثال هذه صيغ الدعاء والأمنيات والرغبات، وقد تستند إلى الاعتقاد الديني أو الإيمان بقوّة الكلمة وفعاليّتها.
صيغة التمنّي:
وتأتي هذه الصيغة في الأمثال مشروطة ببعض الأدوات مثل: لو ولولا ويا ريت ويا بخت... من مثل:
لو بيه خير ما رماه الطير([70]).
وكذلك: لولا الكاسورة ما عمرت الفاخورة([71])،
وكذلك: ريت هالطول ع العالول وهالسمن ع البقره([72])،
وكذلك: يا بخت من بنى وعلا وراح وخلا([73])..
وتحمل هذه الأمثال اتجاها يتخذ الأماني أساسًا للحديث، وتخضع لمنطق الحكم ولغة ما يرغب فيه، وتحمل شحنات تتطلع إلى تجاوز الواقع والانتقال بالإنسان إلى وضع أفضل.
وهكذا تبدو الأمثال وهي تحظى بمنزلة كبيرة في نفوس الناس وتمثل دورًا هامًا في حايتهم اليوميّة فالمثل يتضمّن إنتاجًا معرفيًّا موروثًا، ومعطيات ثقافيّة كثيرة، ويحمل في ثناياه مادة تعليميّة أو قيمة تهذبيّة كبيرة، ويشتمل على قيم ومثل أخلاقيّة رفيعة. كما ينطوي من جهة ثانية على خصائص أدبيّة وبلاغيّة متعدّدة الأغراض والوظائف. ويتضمن أنماطًا وصيغًا غنيّة بالدلالات السيكولوجيّة والجماليّة، ويعتمد على التشابيه الدقيقة، والصور الخفيّة التي ترضي الحس والذوق والنفس.
([1]) يضرب لثقلاء الظل من الناس.
([2]) يضرب في ذم المماطلة والتباطؤ.
([3]) يضرب للجشع الطامع الذي لايقنع.
([4]) يضرب لمن لا تقضي عليه المصائب بسهولة.
([5]) يضرب في معرض الحديث عن الأنانيّة المفرطة.
([6]) يضرب في أن الكلام وحده لا يكفي.
([7]) يضرب عند إظهار محبة الحفيد.
([8]) يضرب عند التخفيف من المصاب.
([9]) يضرب في قيمة الوسطيّة عند التصميم على الأمر.
([10]) يضرب قيما لا نفع فيه.
([11]) يضرب لمن يتساوون في الخسة والدناءة.
([12]) يضرب لمن لا يتذكر خالقه إلا وقت الضيق.
([13]) يضرب لمن يدسون أنوفهم في أمر لا يعنيهم.
([14]) يضرب عند تصوير قوتين متعادلتين.
([15]) يضرب لمن كان ؟؟؟ الأذى والإزعاج.
([16]) يضرب لمن لا قدرة له على تحمل المسؤولية.
([17]) يضرب في ذم الطمع، والإيمان بما قدر الله.
([18]) يضرب في قيمة المال وأهميته للإنسان.
([19]) يضرب لاستهجان تقلب الأحوال وتسلط الدخلاء.
([20]) يضرب عندما يستحكم العداء بين الأقرباء.
([21]) يضرب للمنافق بظهر خلاف ما يبطن.
([22]) يضرب عند تصوير المعارض الذي يأتي في غير أدائه.
([23]) يضرب لمن يحاول التخلص من مشكلة فتولد له مشكلات.
([24]) يضرب لمن يثرثر ولا يعمل.
([25]) يضرب في معرض التهكم ممن يبالغ في روايته.
([26]) يضرب لمن يضع نفسه في غير موضعها.
([27]) يضرب في أن الشيء لا فائدة منه إذ لمن يوضع في مكانه الصحيح.
([28]) يضرب في ضرورة الابتعاد عن إلحاق الأذى بالرمز خوفًا من التبعات.
([29]) يضرب في ضرورة معرفة مقامات الناس.
([30]) يضرب في حتميّة تقلب الأحوال.
([31]) يضرب في الحث على عدم الاغترار بمباهج الدنيا.
([32]) يضرب فيمن يحافظون على السر ويكتمونه.
([33]) يضرب عندما تكون الإجابة من نوع السؤال.
([34]) يضرب عند اختلاف وجهات النظر.
([35]) يضرب في معرض الحديث عن السذاجة التي لا حدود لها.
([36]) يضرب لمن لا فائدة في عمله.
([37]) يضرب في معرض الحديث عن الاستبداد في الحكم.
([38]) يضرب لمن يتحمل كثيرًا ويصبر صبرًا عظيمًا.
([39]) يضرب لمن يتعلق بالمظهر.
([40]) يضرب لمن يقلِّد فيفشل ويسيء.
([41]) يضرب لمن يجهل منزلة الآخرين فيسيء التصرف.
([42]) يضرب في معرض الحديث عن الاهتمام بالإبل والخيل.
([43]) يضرب في أصالة النسب.
([44]) يضرب في معرض الحديث عن عدم الاهتمام بالنتائج .
([45]) يضرب لمن ينكر أصله ويحاول تغطيّة عيوبه بالانتساب إلى غير نسبه.
([46]) يضرب في أن الأقرباء يدافعون عن كل ما يسيء إلى أقربائهم.
([47]) يضرب في المكسب الذي يأتي بلا جهد.
([48]) يضرب عند اليأس من التعامل مع المرأة.
([49]) يضرب في الحث على اتخاذ سبل الحيطة والحذر.
([50]) يضرب فيمن يثق بمن خدعه مرارًا. ولب موضع في أراضي بني حميدة.
([51]) يضرب عند تصوير الطول المفرط.
([52]) يضرب في معرض الحديث عن البياض الناصع .
([53]) يضرب في الحث على الابتعاد عن الشر والأشرار.
([54]) يضرب في الحث على الابتعاد عما يجلب المتاعب.
([55]) يضرب في ضرورة تجنب أذى الحكام.
([56]) يضرب عند تحكم العادة.
([57]) يضرب عند تضاؤل قيمة الشيء.
([58]) يضرب في أن الأمور الصعبة يستدل عليها بالعقل.
([59]) يضرب لمن يتعنت برأيه دون وجه حق.
([60]) يضرب لمن يحاول أن يأتي بعمل ليس من طبعه ولا مزاجه.
([61]) يضرب في أن الأثرياء يستطيعون البناء والهدم.
([62]) يضرب عند الحديث عن الاختيار المناسب.
([63]) يضرب في الحث على عدم التعلق الخيال.
([64]) يضرب في مدى حب بعض الفئا لبعض الأمور المحروم منها.
([65]) يضرب في أن الله عون للضعيف.
([66]) يضرب لمن يستطيب أيام الشباب الأولى فيتمنى عودتها.
([67]) يضرب في السخريّة لمن يعتقد أنه لا مثيل له.
([68]) يضرب في أن المصائب قد تلحق بمن ليس طرفًا في حدوثها.
([69]) يضرب عند التخفيف من وقع المصاب.
([70]) يضرب في أن الشره لا يجود إلا بالتافه.
([71]) يضرب في أن التعلم له ثمنه.
([72]) يضرب في ذم ذوي الأجسام الضخمة قليلي الفهم.
([73]) يضرب فيمن ترك الأثر الطيب بعد مماته.