شبابنا وإشكالية التعاطي مع فكرة التراث أحمد الطراونة

شبابنا وإشكاليّة التعاطي مع فكرة التراث

 

يواجه الباحث والكاتب في مجال التراث سؤالًا مهمًّا تجدر الإجابة عنه في ظلّ هذا التيار الاستهلاكي الجارف للثقافة المعلبة، ووسط هذا التسفيه المقصود للتراث الإنساني بكلّ أشكاله، وهو: كيف يمكن أن نقدّم تراثنا بعيدًا عن إلغاء الآخر ودمج وتوظيف هذا التراث ليكون أكثر قبولّا لدى هذا الجيل الذي خطفه إعلام العولمة إلى مكان يصعب معه قبول أيّ لغة أخرى غير لغة هذه العالم الذي يراه شبابنا من هذا الشباك الصغير؟

وحتّى نحافظ على ديمومة الحسّ الإنسانيّ الرقيق الذي يجسّد الحبل السرّي الرابط بين الماضي والحاضر والمستقبل، وسط تدافع فكرتي القبول والرفض لفكرة التراث، الأولى أنّ التراث هو مشكاة الأصالة وهو منبر الفكر والوعي الجذري لكل ما نرى، ويقسم الأشياء بناء عليه ومن منطلقاته، وفكرة ترفضه تمامّا وترى انّه أسّ التخلّف والانغلاق والصدام غير المنتهي مع الآخر؛ فإنّه لابدّ من التجذير لفكرة التراث في منهج حياتنا بدءًا من أهميّة هذا التراث الذي جاء نتاج تفاعل أنساق إنسانيّة مختلفة شهدت العديد من مراحل الهدم والبناء في فترات زمنية مختلفة، وخضعت لوجدان جمعي قبلها أو رفضها، مما يجعلنا نقف عند أهميّة فكرة إعادة التشكّل وديمومة البناء على فكرة التراث بالمجمل، ولابدّ من الانتباه إلى من يقف خلف هذا التبديل والتغيير وإعادة الإنتاج هو الإنسان.

من هنا يمكن الدخول إلى مناقشة تلك المزاجيّة الحادّة في التعامل مع فكرة التراث أحيانًا، فشبابنا الذي يعيش انساقًا حياتيّة متطوّرة ومتجدّدة لحظيًا عبر إعادة تشكيل معرفيّ مستمرّ، وخلط ثقافيّ غريب، لابدّ من الوقوف مليًّا عند ما يكوّن منطلقاته للحكم على فكرة التراث وسط هذا الصراع المحتدم بين فكرتي القبول وتداعياتها والرفض المطلق وانعكاساته على جوهر النسق الإنساني.

إذن كيف يمكن أن نتواصل مع تراثنا بوعي وإدراك لما نريد؟ لا أن نفرضه بجموده وتخلفه عن الواقع وانّ نصنف من يعزف عن التعامل مع هذا التراث منبتًّا ومنقطعًا عن جذوره، متجاهلين أن البيئة التي يعيش فيها تلعب دورًا مهمًّا في التقريب بين فكرة التراث أو الابتعاد عنها.

ولابدّ من تأكيد أنّ ما أعتقده أنا وأنت قد لا يعتقده ثالثنا وقد يرفضه بالمطلق، وهذا يستدعي التجذير معرفيًّا لأبويّة التراث وخصوصيته لمتحصل معرفتنا، ولا يأتي ذلك إلا من خلال تفاعل مؤسسي معرفي يقود إلى نسق عام في التفاعل مع التراث ولا يفسح المجال إلى التشدّد والغلو في ذلك سلبًا أو إيجابًا.

 

أن فكرة التلقين القاتلة، والتابوهات التي قادتنا إلى زاوية خطيرة في زمن يحتاج إلى إعمال العقل والمقارنة وفي ظل سيادة ثقافة الغالب التي تجبر المغلوب على الاقتداء به قد سبّب خواءً فكريًّا ومعرفيًّا لدى المقتدي مما جعله يشعر بأنّه بلا هويّة أو جذور، وهذا أسّس لحالة فقدان التوازن في الانتباه لفكرة التراث وأهميتها، وأسّس أيضًا لحالة الارتداد إلى جذور التراث بشكل متطرّف ومنفّر وأفقد الحالة الوسطيّة حضورها.

 

انطلاقًا من ذلك لابدّ من إعادة تأهيل فكرة التراث نفسها أولًا لتغدو مقبولة لدى مختلف الأطراف التي تتنازعها، وهذا يحتاج إلى مراحل صهر مهمّة لابدّ من المرور بها.

 

وفي هذا السياق يمكن الحديث أوّلًا عن دور المؤسسات الوطنيّة في التركيز على فكرة التراث والتعامل معها كمعطى حقيقيّ لا أن تكون على الهامش، وبالقدر التي تهمّش فيه هذه المؤسسات فكرة التراث فأنّها تهمّش من قبل الشرائح التي تتعامل معها هذه المؤسسات.

 

وكيف يمكن أن ننجو ونتخطّى ما يدور حولنا إذا ما أمسكنا بوعي بتراثنا وفوّتنا الفرصة على من يظنّ هذا التراث ملكًا خاصًّا به، خاصّة في ظلّ غياب مشروع ثقافي تنويري عربي يسهم في صهر الثقافات العربيّة الفرعيّة في ثقافة عربية جامعة تستند إلى ارث قوي من الحضور الإنسانيّ؟

هنالك مؤسسات مهمّة لابدّ لها من إعادة هيكلة خططها لإعادة إنتاج فكرة التراث لدى شبابنا الذي أصبح في حيرة من أمره، فوزارة الثقافة التي تسعى إلى إيجاد حراك ثقافي هي بالأصل يجب أن تكون متورطة بفكرة التراث وأن تعمل عليها وبما يؤسّس لحالة ارتباط عضوي بين الماضي والحاضر لبناء مستقبل أكثر تصالحًا، فالمتاحف التراثيّة وما تقدّمه من نتاج جامد غير متحرّك ومتفاعل لابدّ من إعادة النظر بجدواها، والمؤسسات المعنيّة بالتراث أيضًا لابدّ من إعادة قراءة دورها وإمكاناتها في ربط الماضي بالحاضر بطريقة واعية، وما يقدّم على المسارح التابعة لوزارة الثقافة ودوره في إيجاد تصوّر ما عن التراث إضافة إلى إصدارات هذه الوزارة وما يمكن أن تقدّم من فعل ثقافي تنويريّ يستند في جذوره إلى فكرة التراث والتي أصبحت على الهامش أحيانًا، ولعلّ وجود مديرية التراث في وزارة الثقافة وبحجم ما يلقى على عاتقها من أحمال، وما تقدّم من إنجاز ورغم أهميته، إلا أنّها لا تستطيع القيام بهذا الحمل إن لم تتطور أذرعها وإمكاناتها لتقدم ما يعادل الطموح.

 

ولابدّ من دور مهمّ لوزارة التربية التي تمرّ مرور الكرام في أغلب مناهجها على فكرة التراث وتلتقط منه ما يقصّر عن سدّ الرمق، هي الأخرى معنية بأهميّة إعادة بناء مناهجها بما يتوافق مع إعادة الاعتبار للتراث والانتباه إلى تأسيس جيل يعرف معنى التراث وكيف يتعامل معه وهذا لن يكون دون تأهيل للمنهاج والمدرّس الذي يقدّم هذا المنهاج.

إضافة إلى ذلك فإن الجامعات هي في صلب معركة التراث التي أضحت مهمّة الآن، وأن تسعى جامعاتنا إلى استدراك ما فات وزارة التربية قد يسهم في تعديل مزاج شبابنا تجاه التراث وأهميته.

ولأنّ الدراما بأشكالها المختلفة التلفزيونية والإذاعية تعدّ مصدرًا مهمًّا في تشريب أجيالنا لتاريخ منطقتهم وتراثها الإنساني فإننا أمام حالة تعدّ الأخطر على الإطلاق، فما يقدّم على الشاشات هو أس ما نعيشه الآن من تطرّف سواء في الانغلاق أو في الانفتاح؛ فأن نصوّر تاريخنا وأن نشوّه ماضينا من خلال وجبات دراميّة قاتله هو فعل جرمي في حقّ شبابنا، يستدعي ضرورة الانتباه إلى ما يقدّم على شاشاتنا التي بدا أولادنا يجلسون أمامها معظم ساعات يومهم ويأخذون منها أكثر بكثير مما يأخذون من مؤسساتنا التعليمية الأخرى مجتمعه. 

 

وفي سياق آخر نجد أنّ تشويه العادات والتقاليد قصدًا من أجل الابتعاد عنها قد أساء إلى فكرة التراث وجعل شبابنا في حيرة من أمرهم، فهل يقتدون بما ورثوه أم يتركونه ويتبعون عادات وتقاليد دخيلة، ولكي ننقذ أجيالنا القادمة فإننا معنيون بإعادة تصنيف وفرز لكلّ ما يجدر بنا التمسّك به ليقف شبابنا على أرضية صلبة تجاه ما يلقى عليهم تحت حجة تراث الآباء والأجداد أحيانا ويجبرون على اتّباعه رغم عدم إيمانهم به.

 

ولعلّ الانتباه إلى العديد من مؤثثات فكرة التراث التي تشغلنا باستمرار وتطفو على السطح باستمرار كالأغنية التراثيّة والأزياء التراثيّة والمأكولات التراثيّة والحرف اليدويّة ومصداقية التعامل معها كحالة ثقافيّة خاصّة نتشارك فيها، ونتواصل فيها مع الثقافات الأخرى، قد يسهم في توصيف هويّتنا وإعادة رسم ملامحها بصدق بعيدًا عن التشويه والانكشاف أمام الهويات الأخرى الغازية، أو أمام تسلّط هويّة فرعيّة على أخرى في مجتمع يشكّل فيه الشباب أكثر من نصفه وتتشارك في هويته الجامعة العديد من الهويات الفرعية التي تعدّ إغناءً مهمًّا للهويّة الأم.

 

يبقى القول إنّ للتكنولوجيا دورًا في طمس الهويّة الجامعة وانحلالها في الهوية العالميّة الممسوخة، أو تكلّسها وتقوقعها بشكل مفزع وحادّ، في ظلّ انتشار وسائل التواصل الاجتماعي بشكل مهول، وبعد ما قدمته من إنتاج رديء لفكرة الحريّة التي تجاوزت حدود التحرّر إلى إلغاء الآخر وتشويهه، وهذا يوجب إيجاد حالة من الوعي بأهميّة التراث الذي يخلق أنماطًا محترمة إذا ما استند إلى جذور محترمة لتجاوز حالة الدّمار الذي خلقته هذه الثورة العجيبة وسحبته على كلّ شيء، وأن يكون هذا التراث مدعاة لقبول الآخر والإيمان به وبإنجازه مع إيجاد حالة من تقدير الذات وهذا ما يحتاجه شبابنا اليوم.

© 2024 تطوير وتصميم شركة الشعاع الأزرق لحلول البرمجيات. جميع الحقوق محفوظة