دراسة تحليلية في أعمال نمر حجاب نضال القاسم

فقدنا في العام 2013  الشاعر والناقد والقاص والمترجم والمربي والباحث الفولكلوري الأستاذ نمر حسن حجاب المولود في قريّة الياجور قضاء حيفا سنة 1935م، ويعدُّ رائدًا من الروّاد الكبار في مجال الفلكلور الشعبيّ وفي مجال الأعمال التوثيقيّة، وفي مجالات إبداعيّة متعدّدة.

 

 والراحل نمر حجاب حاصل على شهادة الليسانس في الفلسفة وعلم الاجتماع من جامعة بيروت العربيّة سنة 1970. وعمل مدرّسًا في مدرسة وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) بإربد (1958- 1974)، ثم مديرًا للمدرسة (1974- 1993). ورأسَ مؤسسة إحياء التراث الفلسطيني في شمال الأردن (1981-1983)، وانتُخب عضوًا في مجلس بلديّة إربد (1995- 1999). وتقديرًا لإبداعه وجهوده البحثيّة المتميزة فقد مُنح مفتاح مدينة "يوكوهاما" الذهبيّ من الحكومة اليابانيّة عام 1996، ونال جائزة بلديّة إربد للمعلمين الأوائل في مدينة إربد في العام 2009.

 

ونمر حجاب، باحث دؤوب ومتابع في الفولكلور الشعبيّ، وله العديد من المؤلفات في هذا المجال، منها: "الأغنية الشعبيّة في شمال فلسطين" الذي أصدرته رابطة الكتاب الأردنيين العام 1981،  وكتاب "أغاني ألعاب الأطفال في فلسطين" والصادر العام 1987، وكتاب "الأغنية الشعبيّة في عمّان" الذي أصدرته أمانة عمّان الكبرى العام 2003، وكتاب "الشاعر الشعبي الشهيد نوح إبراهيم" والصادر العام 2006 عن دار اليازوري بالتعاون مع رابطة الكتاب الأردنيين وبدعم كامل من الشركة العربيّة للصناعات الدوائيّة والمستلزمات الطبيّة (اكديما).

 

ومما لا شكّ فيه أن نمر حجاب – عليه رحمة الله- كان واحدًا من المثقفين البارزين الذين قدّموا ما لديهم في مجال البحث الفولكلوري الفلسطيني، حرصًا منه على هذا الإرث الكبير من الضياع والنسيان والاستلاب، في بلد يعاني من الاحتلال، وهو بأمسّ الحاجة إلى جمع تراثه الشعبي، وحفظه، والعنايّة به، ليكون سلاحًا بيد الأجيال القادمة.

 وقد بدأ جهده في هذا المجال يتبلور من خلال كتابه الخاص بــ "الأغنية الشعبيّة في شمال فلسطين"، الذي قامت رابطة الكتاب الأردنيين بنشر الجزء الأول منه في العام 1981، على أن يليه جزآن آخران، حيث جمع الباحث في كتابه كلّ ما يتعلّق بهذه الأغنية الخاصّة بشمال فلسطين، وهو  يعدّ  من الأعمال الرائدة في هذا المجال لما فيه من عنايّة كبيرة بموضوع محدد بمنطقة جغرافيّة محددة في دنيا الأغاني الشعبية.

 

وكما قلنا، فإنّ الباحث خصص مؤلفه (الأغنية الشعبيّة في شمال فلسطين) للأغنية الشعبيّة في شمال فلسطين حيث يرى الباحث أنه لم يكن هناك أيّة أبحاث خصّت شمال فلسطين من قبل الباحثين، ومن هنا ترجع أهميّة الكتاب. وقد تمكّن المؤلف من إيراد (32) قالبًا لحنيًا شائعًا في شمال فلسطين، تم ترتيبها في الكتاب على النحو الآتي: (الموال، العتابا، الميجنا، المعنّى، الدلعونا، زريف الطول، الجفرة، ع اليادي، ع العميم، الغزيل، مرمر زماني، أبو الزلف، ليه وليه، جملو، أسمر اللون، مشعل، المهاهاه، جيل الغوى، الشروقي، الجعيديّة، المثمّن، الطلعة، المحوربة، الشوباش، الحدادي، القرادي، لوع الجمال قلبي، النصرويات، غزالي غزالي، ع الماني، الحلوة).

 

والجهد المبذول في رصد هذه القوالب كبيرٌ جدًّا ويستحقّ التقدير والثناء، فالمصادر الأساسيّة لهذه القوالب هي ما تناقله الناس من ألحان شعبيّة، جُمعت بجهد ميدانيّ ملموس، والرواة هم مصدره الأول، ومن مصادره الأساسيّة أيضًا المناسبات التي تتردّد فيها هذه الألحان، وهي الميدان الذي عمل فيه الباحث نمر حجاب، عليه رحمة الله، في سبيل الحفاظ على هويّة شعبه وأمّته من الاندثار.

 

ولم يكتفِ بهذا الجهد الميدانيّ، الذي هو الأساس في جمع التراث وحفظه، بل إنه قدّمَ  إلى جانب هذا الجهد الكبير إضافات نوعيّة جليلة أعطت كتابه طعمًا خاصًا مميزًا، فقد قدّم (دراسة في الأوزان الشعرية) لهذه القوالب، ووضع أوزانًا عروضيّة لكل قالب منها، وهذه عمليّة صعبة للغايّة وتمثّل أهميّة قصوى بالنسبة لعمليّة التسجيل نفسها. ولم يكن بمستطاع أي باحث آخر أن يؤدّي هذه المهمّة على النحو الذي قام به الأستاذ نمر حجاب؛ ذلك أنّ معرفته بعلم العروض واللهجات والقوالب اللحنيّة هي التي ساعدته على إنجاز هذه المهمّة الصعبة الجليلة على أكمل وجه، حيث لا نستطيع أن نتعامل مع أوزان الأغنية الشعبيّة بالدقّة التي نتعامل بها مع أوزان الشعر الفصيح، لأنّ الشعر العامي كثيرًا ما تختلط به الأوزان.

 

جانب آخر مهمّ في كتاب "الأغنية الشعبيّة في شمال فلسطين" هو أنّ الباحث وضع نوتة موسيقيّة للقوالب اللحنيّة للأغاني الشعبيّة التي أوردها في الكتاب، ولتحقيق هذه الغايّة بدقّة استعان الباحث بالموسيقار نبيل الشرقاوي الذي قام بدوره بوضع القوالب اللحنيّة والنوتات الموسيقيّة الخاصة للأغاني مما جعل للكتاب قيمة مضافة، وجعل منه مصدرًا من مصادر المعرفة لكلّ مهتمّ بالأغنية الشعبيّة في شمال فلسطين، ليس فقط من حيث دراستها علميًّا، بل للنهج على منوالها فنيًّا والاستفادة من ألحانها وتطوير هذه الألحان مستقبلًا.

 

ومما يُحسب لنمر حجاب في كتابه هذا، أيضًا، سعيه الجادّ إلى تقصّي أصول القوالب اللحنيّة للأغنية الشعبيّة الدارجة في شمال فلسطين والبحث عن موطنها الأول، فهو يجد مثلًا أنّ (الجفرة) قالب لحني شمالي انتشر كثيرًا في شمال فلسطين وانتقل إلى لبنان، وغيره من الأقطار العربيّة المجاورة، كذلك رأى الباحث أن (أبو الزلف) قالب لحني شمالي انتشر في لبنان، أما لحن (مشعل) فقد رأى الباحث أنه انتشر في جميع أرجاء فلسطين وسوريا ولبنان والعراق، ولا يُعرفُ المصدرُ الأولُّ لهذا القالب اللحني. أما (العتابا والميجنا) فهي من أكثر الأغاني الشعبيّة انتشارًا في شمال فلسطين، ومنه انتشرت في الجنوب اللبناني والأردن وسوريا والعراق.

 

 أمّا الكتاب الآخر الذي سدّ فراغًا كبيرًا في التراث الشعري الفلسطيني فهو كتابه عن الشاعر الشعبي الشهيد نوح ابراهيم الذي روّى دمه تراب وطنه الغالي فلسطين في الثلاثينيات من القرن الماضي ولم يكن يعرف الناس عنه إلا النزر اليسير، وكلّ ما عرفوه هو حفظهم لبعض

 قصائده الشعريّة الثوريّة التي كان يرددّها الحفّاظ والرواة وأعادت، فيما بعد، فرقة  العاشقين الفلسطينيّة إنتاجها وإحياءها من جديد، ومنها أغنيّة (من سجن عكا وطلعت جنازة.. محمد جمجوم وفؤاد حجازي)، وغيرها الكثير من الأغاني الثوريّة والوطنيّة.

ويرى الباحث في مقدّمة كتابه عن (الشاعر الشعبي الشهيد نوج إبراهيم) أنّ حياة الشهيد البطل نوح إبراهيم (كانت حياة مليئة بالأحداث التي شاغلت الناس زمنًا طويلًا، ولا زالوا يذكرونها، ويحفظون "اكواناته"، اسطواناته، التي سجلها بصوته)، ويعود الفضل لنمر حجاب في التعريف بهذا الشاعر المجاهد القسّامي البطل الذي عاش في فترة الثلاثينيات من القرن الماضي، وكان مُنشد الثورة ومثقّف أجيالها ومندوبها إلى مؤتمرات الملوك والرؤساء العرب، في ثورة العام 1936. فقد قابل هذا الشاعر الأمير عبد الله بن الحسين وأهداه الأمير عباءة اعترافًا منه بنبوغ نوح ونباهته، وذكائه وثقافته ووطنيته. كما ذهب مترأّسًا وفدًا لمقابلة الملك غازي ملك العراق قبل توقف الإضراب بثلاثة أيّام، ودخل نوحٌ القصر وقابل الملك، فاستقبله بالترحاب وتحادثا طويلًا بأمور الإضراب، وطلب الملك غازي من نوح أن يُبلغ قيادة الثورة وقف الإضراب، حرصًا على المصلحة العامّة، وحفاظًا على الروح الجماهيريّة الصّامدة من أن تيأس. وأن تبقى هذه الجماهير في تعاطف مع ثورتها، وأهداه الملك ساعة.

 

ثم أوفد نوح من جديد لمقابلة الملك عبد العزيز آل سعود بشأن الإضراب وأهداه الملك عبد العزيز عباءة وحطةً وعقالًا مقصّبًا وقد كان لباسه المميّز الذي ظهر في صوره. كما أنّ الثورة الفلسطينيّة  وقيادتها في الخليل كانت تسند لنوح ابراهيم مهمّة الرّجل الإعلامي والصحفي للثورة الفلسطينية. إذ إنّه بعد استشهاد الشيخ المجاهد عز الدين القسّام وخروج الحاج أمين الحسيني من البلاد، أصبحت البلاد في فوضى عارمة وفراغ سياسيّ كبير، فكثرت الزعامات الوطنيّة والقيادات السياسيّة، وصار الكثير من السلاح يوجه لغير وجهته الصحيحة. في هذا الوقت العصيب من تاريخ فلسطين قام نوح إبراهيم بدور المصلح الاجتماعيّ، المهدّئ للنفوس. مستغلًا حبّ الجماهير له. ونجح في مهمّته في شمال فلسطين، وعندما استُشهد في الشمال بالقرب من بلدة تُدعى (طمرة) كان في مهمّة للتوجه إلى جبل النار لوقف نزيف الدم وتهدئة الأوضاع كما فعل في الجليل وعكّا وحيفا.

 

أما كتابه "أغاني ألعاب الأطفال في فلسطين" والصادر في عام 1997م، بدعم من وزارة الثقافة الأردنيّة، فهو كتاب نوعيّ اعتنى فيه المؤلف جيدًا بجمع الأغنيات الشعبيّة التي تصاحب الألعاب الشعبيّة في دورة الحياة الخاصة بالطفل الممكن أن نسمّيه فلسطينيًا، ولقد أخذ الباحث نصوص الكتاب من عدد كبير من المسنين، ويلاحظ المتأمل للكتاب أنّ هذه الأغاني التي جمعها الباحث تشمل جميع مراحل الطفولة، فهي تبدأ بهدهدة الأطفال في شهورهم الأولى، في المهد، ومنذ المناغاة الأولى للأطفال قبل مرحلة المشي والنطق والحركة، وما يلي ذلك من أغانٍ وألعاب ومداعبات، وما يلي ذلك من أغانٍ في الشتاء وأخرى في الصيف، ومن أغانٍ فرديّة وأخرى جماعيّة، وأغاني الختان والأراجيح وأغاني ألعاب الحدائق...إلخ.

 

وأهم ما يميّز الكتاب هو غزارة النصوص التي جمعها الباحث ودونها وأعاد تصنيفها وتبويبها، ومما يبعث على التقدير والإعجاب في الكتاب ومؤلفه هو ذلك العدد الكبير من المسنّين والمسنّات الذين رجع إليهم الباحث، ممن عاشوا في فلسطين طويلًا من حياتهم. وما يميّز الكتاب المسعى الجاد للباحث للبحث عن المدلولات التربويّة والاتجاهات المسلكيّة والمزايا العقليّة والنفسحركيّة لهذه النصوص، كما اهتمّ الباحث بتدوين النصوص على النوتة الموسيقيّة، ما يدل على النفاذ وراء الظاهرة إلى ما يمكن أن يعمّم الإفادة منها إلى أجيال قادمة.

أما كتابه الموسوعيّ "الأغنية الشعبيّة في مدينة عمّان" والصادر عن منشورات أمانة عمان الكبرى في العام 2003، فهو كتاب نوعيّ تناول بالدرجة الأولى (شكل الأغنية الشعبية) وقوالبها اللحنيّة، وقام بمراجعة الكتاب الأستاذ موسى حسن حجاب شقيق الشاعر والباحث الأستاذ نمر حجاب، ويرى المؤلف في مقدمة كتابه أنّ " أهم ما يجذّرنا نحن الأردنيين في هذه الأرض التي حباها الله تراثًا ضخمًا هو تراثها الشعبي" وهو يرى أن خير ما نفعله في هذه الفترة العصيبة من حياة أُمتنا هو جمع ونشر هذا التراث الغنائي العمّاني الذي هو بالمحصّلة مجموع الغناء الشعبي الأردنيّ بضفتيه، مدنه وقراه وباديته، لأنّ هذا التراث الشعبي بنظره من أهم عوامل وحدة الأمة وتلاحمها، إذ هو المنهل الذي يستقي من جميع أفراد هذا الشعب، مقومات وحدته، وكلّما توحّدت المشارب اتّحدت الآراء والمنازع والأهواء والعكس هو الصحيح".

ويرى الباحث أنّ التراث بعامّة، والأغاني بخاصّة يسهمان إسهامًا قويًّا في توحيد الأردنيّين المقيمين على أرض هذا الوطن. كما يشدّان دائمًا الأبناء في بلاد الغربة إلى أرض الوطن، أرض الآباء والأجداد. وبذلك تكون الأغنية الشعبيّة أداة توحيد للأردنيين على اختلاف مذاهبهم وانتماءاتهم السياسيّة وغيرها.

ومن هنا يعود الباحث ليؤكّد من جديد أنّ العودة إلى التراث الشعبيّ بعامّة، وإلى الأغاني الشعبيّة العمّانيّة بخاصّة عودة إلى الأصالة...إلى الينابيع حيث المياه صافيّة لا تكدّرها شائبة، وهذه العودة ضروريّة بل واجبة إلى أصالتنا، لأننا بها تبرز هويّتنا.

وهكذا نرى أن تجربة نمر حجاب استطاعت أن تقدّم لنا صورة صادقة عن الأغاني الشعبيّة التي تغلغلت في الوجدان الشعبي، فحملتها الأجيال لأنّها خرجت من جراح عميقة فكانت صادقة في صورها الجميلة وأدائها الحسن.

ولا بدّ أخيرًا من الإشارة إلى نمر حجاب الشاعر، حيث يرى المتأمل لديوانه الأول (وجع) الذي أصدره الشاعر في العام 2001 بمناسبة وفاة زوجته ورفيقة دربه (أم حسن)، أنّ شعره يتدفق سيالًا بألفاظ جزلة، ومعاني حارّة تنضح بالحزن العميق لفراق زوجته ورفيقة دربه، وما آل إليه حاله بعد فقدانها من تيه وضياع ولوعة واشتياق، وكلام القلب يقع في القلب دائمًا، وقصائد الديوان بالمجمل تمتاز بالعفويّة والصدق، وهي إنسانيّة مُدهشة، فيها رضى وحب كبيران.

وأعمال نمر حجاب شكلّت نقطة مضيئة في تاريخ الأدب العربي المعاصر، فقد سعى إلى تسجيل التراث الشفهيّ وإلى حفظه ودمجه بالتراث الإنساني في الوقت الذي تتعرض فيه فلسطين إلى أبشع مشروع استعماري عرفته البشريّة في تاريخها الطويل.  وقد سلّطت أعماله الضوء على أصالة تراثنا الشعبيّ وموروثنا الحضاريّ، وقد أعطت هذا الأعمال صورة صادقة عن المجتمع وبيئته الطبيعيّة وعن عاداته وتقاليده وقيمه الاجتماعيّة كما هي في الواقع بعيدًا عن التكلّف والزخرفة، كما أنّها نجحت أيضًا في تسجيل جغرافيّة المكان، وصورّت طبيعة الأرض بكلّ تفاصيلها.

وإني لآمل في ختام هذه الدراسة المتواضعة أن يلتفت الدارسون والباحثون والأكاديميّون لتجربة الباحث الموسوعي الكبير الأستاذ نمر حسن حجاب، فهو يستحق منا نحن الدارسين والكتاب أن نتناوله بالبحث المتعمّق الذي يعطيه حقّه.

 

 


* شاعر وباحث أردني

© 2024 تطوير وتصميم شركة الشعاع الأزرق لحلول البرمجيات. جميع الحقوق محفوظة