يتحصّن الكاتب الطموح بثقافة موسوعيّة عامّة، ويتكئ على معارف متشعّبة، ويحتمي بظروف ملائمة تسعفه في إعداد نفسه إعدادًا خاصًا ليبلغ مراده، ويرتقي إلى المقام الذي يرنو إليه، ويغدو فنانًا أصيلًا ذا باع طويل في حقل إبداعه ومجال ابتكاراته؛ فالعمل الفنيّ الذي ينوي الأديب ارتياد ساحاته، متراكب في طبيعته، يستقيم متساميًا كشجرة وارفة من ثمرات تصورات المؤلف عن العالم وخباياه، وينشأ حصيلة للإدراك الجدلي المتكامل للكون في حراكه الدائم، كما تتجلّى فيه وحدة التحليل والتركيب ناصعة متماسكة، تسعى إلى بلوغ نواميس الوجود والواقع.
لا يستطيع الأديب إنجاز هذه الغاية من خلال اقتصار كدِّه في الحصول على المعلومات والمعارف الأدبيّة والفنيّة والعلميّة، وإنما يلزمه الجمع بين تحصيله الثقافي واستغوار مكنونات الحياة وسبل العيش ودمجها في كل موحّد، لتعمل المنظومتان الإشاريّتان الأولى والثانية معًا لإدراك مغزى الحياة والوجود. ويبدأ جهد الأديب من اصطفاء خامة عمله من جمع الحقائق وتحليلها، وسبر العلاقة بين الظواهر والأحداث، واستلهام التناقضات الحيويّة في حضورها المتكامل، المنفتح على أفق المستقبل.
والكاتب المتمرّس المترسّخ في بيئته الوطنية والمتجذر في قوميّته الحقيقيّة لا يكتفي بالاطلاع على الثقافة العالمية والإلمام بالآداب الكلاسيكيّة، ومقارعة التأثيرات الدخيلة والعدائيّة، وإنما يجهد للإحاطة بثقافة الشعب وفنونه المتنوّعة، لاسيما التراث الشفويّ الشعبيّ الذي خلفه الأجداد في مخزون الذاكرة الجماعية، وحمل في ثناياه هموم الشعب البسيط ومكابداته، وارتبط ارتباطًا وثيقًا بشتى مصادر حياة الشعب المجتمعية والتاريخية، وبكل ألوان فعالياته ونشاطاته في العيش والعمل والإنتاج، وكان المعبّر الحيّ عن تطلعاته وأحلامه في حياة كريمة وعيش رخي، وانتصار الخير على الشر، واستقامة العدالة ورفضٍ للقهر والظلم.
والأدباء الكبار في كلّ الأزمنة يحملون عبء تراث أمتهم، ويسعون إلى استدراجه وإظهاره للأجيال المجايلة واللاحقة.. يقتبسون منه، ويستشهدون به، ويضيئون بعض مشاهد أعمالهم وصورهم من تلافيف أشكاله ومحتوياته المتنوعة، لتصبح أداة حماية ودفاع للأمة، وترسيخًا لأصالتها القومية.
ومن حسن الحظ أن عددًا كبيرًا من أدباء وكتاب الجيل المعاصر أخذ يعي أهميّة التراث الشعبيّ، وشرع يتسلّح بشيء من مفرداته وصوره وأغراضه، ويستمد من إشراقاته ما يثري أعماله الإبداعيّة، اقتداءً ببعض أدباء العالم وعلى رأسهم أدباء أمريكا اللاتينية.
لا تقاس مكانة الكاتب بمقدار ارتقائه بالوعي إلى مستويات عليا حسب، وإنما أيضًا بمدى اختراقه للأشكال الأوليّة للوعي الإنساني واستجلاء دواخلها، وبث الروح في الطبيعة، وتدشين بناء صوري مخصوص قائم على تعالق الإنسان بالطبيعة وبالتيار الفولكلوري الحصين؛ مما يستوجب ولوج الكاتب إلى عالم الأشكال التاريخية البدائية والأولية للوعي الإنساني، ودمج الحياة الفعلية برسم السيرورات التاريخية والمجتمعية الدرامية المعقدة، واستسقاء عروقها بنبعٍ من العناصر الفانتازية، بحيث ينجدل العالم الصوري القديم في نسيج السرد، ويصبح قريبًا من المعاصرة في إشكالياته وأدوات استقصائه لنفسيّة الشخصيّة الأدبيّة.
يتسم إبداع الشعب بالأصالة... بالقوة والمتانة.. بالكمال والبساطة؛ فإذا تناولنا الحكاية كمثال، نجدها تنير حياة أخرى كانت قائمة وقتذاك، لكنها كانت تفكر وتحلم بعالم أفضل وأكثر عدلًا واستقامة، تنطلق مدويّة بحريّة وبعزيمة لا تهاب.. إنها شعر خالد، ورائدة في الكتابة لأدب حر مندفع يستثير العقول والهمم، والحكاية تقدّم غذاء روحيًا ومعنويًا للكاتب يحضّه على مقارعة الظلم والطغيان، ويكشف له عن حبكات درامية مثيرة لأعماله وإبداعه. والكاتب النابه يفيد من الأسلوب السردي الجامح والمنطلق في عنان الخيال الذي تتمتّع به الحكاية الشعبيّة، ويضِّمن بعض عناصر ها الملهمة في أعماله، ويضفي عليها زيًّا عصريًا، فتبدو كائنًا حيًا يبث ألقه الناصع لتستنير به الأجيال المعاصرة، ويكون حائط صد في مواجهة التيارات الدخيلة، وحصونًا دفاعية قومية راسخة. ولا بد هنا من التذكير بأن الفولكلور هو بدايات فن الكلمة، وهذا ما يعزز مكانته وارتباطه بالأدب، لأن الخامة واحدة في كلا القطبين، وهي المفردة الشعرية، والغاية واحدة وهي – التأثير على وعي الناس واستثارة مشاعرهم وهممهم. والكاتب في لجوئه إلى التراث الشعبي يسعى إلى الإفادة منه ليساير مجرى الملابسات المعاصرة وتعميق دلالة الإشكالية المطروحة، بما توحي إليه حقائق الفولكلور ودروب إيغاله في النظر إلى مكنونات الوجود وظواهر الكون.
الأدب والفولكلور قرينا الحياة والواقع المتغيّر.. يتحاوران وينزعان إلى التمهيد لمُثل موحّدة وقيم موحّدة، في مسعى منهما لكشف أسرار الحياة وأغوار النفس الإنسانية. الفولكلور ليس أثرًا مهجورًا أو عهدة قديمة بالية، إنه كائن متغير بثبات، تسفحه ملابسات الواقع فيتأثر ويؤثر.. قد تفقد بعض مكوناته الأجناسية بريقها، لكن عناصر أخرى يتضاعف وزنها النوعي في قوامه ومخبوءاته. اللجوء إلى الفولكلور يحرّر اللغة من سموها المتعالي، ومن نير العناصر الدخيلة ويمنحها الحريّة التامة، ويستثير حميّتها لتتجه إلى الينابيع الحيّة المرتبطة بمفردات الشعب وأمانيه؛ مما يسعف الكاتب في الابتعاد عن الإغراب في اصطفاء الكلمات والتعابير الوحشيّة غير المأنوسة، أو الإفراط في تقعير اللغة ومخاتلاتها، ويعينه على الدمج العضوي بين اللغة الأدبية والخطاب الحياتي وكلام الشعب، حيث يضحي عمله قريبًا من اللغة المبسطة في مفرداتها العامة وتراكيبها الإنشائية الوظيفية المسايرة لروح الشعب، ننصت إليها ونستمتع بلحنها المضمّخ بالجناس والسجع والقوافي الداخلية، وإيقاعات الخطاب العاطفي، ونستطيب الصور الحكائيّة والأسطوريّة التي تدلف إلى نسيج السرد محملة ببناء لغوي متصاعد شعريًا، يقرّب المسافة بين الرواية المعاصرة والخرافات والأحاجي والأغاني الشعبيّة وغيرها من مكونات التراث الشعبيّ الشفويّ.
الشعريّة الفولكلوريّة- تتيح للكاتب الإفادة من صور التراث الشعبي وأغراضه وبواعثه، وتمنحه طاقة هائلة للتنديد بمخلفات الماضي الكريهة والأعراف الساذجة والعادات المتخلفة التي لا تستقيم وروح العصر، وتحفزه على طرح وجهات نظر متقدمة، والعمل على ازدهارها في ظل علاقات اجتماعية مستجدة وواقع متبدّل جديد. هذه الشعرية تنجد الكاتب في ابتداع أعمال غير عاديّة وغير متوقعة في حقل الأشكال السردية والأسلوبية، ولا يتوقف تأثيرها عند المجال الثيمي والفكري حسب.
وجدير بالملاحظة وأخذ العبرة والإفادة من دروس الكتاب العظام الذين استمدوا من التراث الشعبيّ ثيماتهم وأفكارهم، وحياكة آثارهم وأعمالهم الفنية، واستغلوا معرفتهم العميقة والواعية بمواد الفولكلور المتشعبة، ليقدموا أعمالًا أدبية مؤثرة في وعي الجمهور العريض، وخالدة على مر العصور والأزمنة. ومن يقرأ دون كيخوت يجد أن سرفانتس قد طعم روايته بعناصر متنوعة من التراث الشعبي الإسباني، حيث تتوارد على لسان سانتشو أحد أبطال هذه الرواية مجموعة من الأمثال والأحاجي والألغاز السائرة في الأوساط الشعبية الإسبانية. ولم تعمر (الكوميديا الإلهية) وتزهو بدون ما تزخر به من حكايات وأساطير وأشباح وخيالات وسواها. ولو لم يلمّ هوميروس بتراث شعبه وأمثاله وأساطيره لما حظي الأدب العالمي بالإلياذة والأوديسا، واستمتعنا بما فيهما من تخيلات وحدوس وتوهمات وبطولات شعبية فائقة.
أما شكسبير فقد أقام معمار أعماله الدراميّة الشهيرة على ما كان معروفًا في زمانه في الساحة الإيرلنديّة من حكايات وقصص متداولة عن أنماط من الأبطال والشخوص الذين كانت تزخر بهم الحياة الشعبية المعاصرة له، وتمكن بخياله الفسيح ودقة خطابه الأدبي من تقديم آثار خالدة على مرّ الزمن من اقتناص سياقات وأغراض المرويّات الشائعة آنذاك.
يشير ميخائيل باختين في دراسته الموسومة "فن الكلمة وثقافة الضحك الشعبية" إلى مدى تأثر كل من رابليه وغوغول بهذه الثقافة قائلًا "حاولت في كتابي عن رابليه أن أبيّن أن المبادئ الأساسة التي يرتكز إليها إبداع هذا الكاتب الكبير تتأطر بثقافة الضحك الشعبية"، ويضيف "إننا لا نستطيع أن نستوعب إبداع رابليه إلا من خلال تيار الثقافة الشعبية، التي جابهت في سائر مراحل تطورها الثقافة الرسمية، وكوَّنت وجهة نظرها إلى العالم وأشكال محاكاته التصويريّة الخاصة". ويرى باختين أن غوغول أفاد من فن الإضحاك الشعبي عند رابليه، وقام بتطويره في معظم رواياته وأقاصيصه، لا سيما في تصويره للأعياد والأسواق الشعبية الأكرانية.
هذا التوجّه إلى الإفادة من الثقافة الشعبية حض عليه الأديب الشعبيّ مكسيم غوركي، الذي لم يأل جهدًا ولم يترك مناسبة إلا ودعا إلى استيعاب ثقافة الفئات الشعبيّة وروحها من خلال الأمثال والحكم التي تدور في أوساطها، التي يرى أن مضامينها تحتوي على تجربة حياتيّة وتاريخيّة واجتماعيّة مؤثّرة تسعف الكاتب في تكثيف الكلمة وإيجاز الخطاب وبلوغ الغاية بأقصر السبل والوسائل.
وكان بوشكن أمير شعراء روسيا قد سبق غوركي إلى الاهتمام بالحكايات الشعبية والسحرية التي كانت تقصّها عليه جدته بأسلوبها الجاذب بإتقان متين، شجّع الحفيد على الخوض في أغوار نفسيّات أبطاله وكشف دوافع تصرفاتهم وأفعالهم، وإقامة الحدود الفاصلة بين ما يفكر به كل واحد منهم، وتطوير سبل التعبير لديهم.
يعترف غارسيا ماركيز صاحب "مئة عام من العزلة" بأن أثر حكايات جدته عليه كان يصيبه بالهلع والذعر: "اعتادت جدتي أن تروي لي ليلًا "، بدون وعي كامل، قصصًا تجعل شعر رأسي ينتصب هلعًا ورعبًا ". وكانت هذه القصص والملاحم الشعبية المنتشرة في كولومبيا ودول أمريكا اللاتينية أداة تحفيز هائلة لهذا الروائي الملهم في تأسيس ما يسمّى "الرواية السحريّة"، التي طغت على الساحة العالمية الأدبية من أواخر القرن العشرين وحتّى يومنا هذا.
ينبغي ألا ننسى الدّوي الهادر الذي أحدثه كتاب " ألف ليلة وليلة " في الأدب العالميّ بعامّة والأوروبيّ بخاصّة، وكانت أقاصيصه وأنماط أبطاله وشخوصه، وألق سحره وهيلمان إلهاماته وإيحاءاته حافزًا لعدد كبير من الأدباء لتعمير أعمالهم بالخيالات والاستطرادات الفجائية والأحلام المتوتّرة واستنباط الدروس والعبر، ومنح الإنسان بصيص أمل في دنيا أخرى عامرة بالأحلام السعيدة في حياة أفضل وعيش أرغد، والخروج دائمًا من المآزق وفتح الأقفال المغلقة.
يشهد حضور "ألف ليلة وليلة" في الأدب العالمي، واستلهام مضامين قصصها وسياق حكاياتها في أعمال كبار الأدباء في العالم على دور آداب الشرق في خريطة الأدب العالمي وسيرورته وتطوّر مقاصده وغاياته. وأي محاولة لإنكار مكانة هذه الآداب لا يتفق وواقع الحال، ولا يتسق واعتراف أساطين الأدب الأوروبي بمدى تأثرهم بآداب الشرق واغترافهم من موضوعات تراث الشرق الشعبي وثيماته، ومن يطّلع على مؤلفات دانتي وغوته وتولستوي يعثر على بصمات واضحة لآداب الشرق وحكمهم وأمثالهم وتصوراتهم الفكرية والمعنوية. وأوضح مثال على أهمية "ألف ليلة وليلة" وأخواتها، وشدة تحفيز موضوعاتها ومحتوياتها على سبل الخلق والإبداع رواية باولو كويللّو "الخيميائي" المستمدّة من إحدى حكايات هذا الأثر العظيم، والسائرة على دربها، سواء في السياق العام أم في الغرض والهدف. الكاتب الكبير لا يكتفي بالمعارف الواسعة والثقافة العامة، وإنما يحتاج إلى الإلمام بالتأثيرات المتنوعة لإبداع الشعب الشفوي، وما ينطق به من بطولات ومآثر وأخلاقيات محرّكة ودافعة للفعل الإبداعي.
أفاق العالم العربي في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين مع انبثاق عصر التنوير بعد قرون من الركود الفكري والأدبي المكتوب، شاعت فيها ضروب متنوعة من التراث الشعبي الشفوي، يحكي بطولات سالفة وخوارق ساحقة للتعويض عن مشاعر الإحباط التي كانت تلفّ مجتمعات ذلك الوقت، حيث فشت في تلك الملابسات الملاحم الشعبية ذات التوجه البطوليّ والسير الشعبيّة الحماسيّة، مثل سيرة سيف بن ذي يزن، والزير سالم، وحياة عنترة وسيرة بني هلال وتغريبتهم، ويروي كثير من الدارسين أن هذه السير والملاحم كانت منتشرة في أغلب الأقطار العربيّة، لا سيما في مصر وبلاد الشام، يتناقلها الرواة والشعراء الشعبيون ويروونها بأساليبهم الخاصة في سائر المدن والقرى حيث تسود الأميّة وينتشر الجهل. وما أن لاح فجر النّهضة واستيقظ العرب من غفوة العصور السابقة، حتى تدفّقت في دماء أبنائهم روح المواطنة، ونما الإحساس بالكرامة والعزة القومية لديهم، ووجدت هذه المشاعر ضالّتها في شتّى فنون التراث الشعبيّ الشفويّ، وبدأ الأدباء يستنهضون هذا التراث لخدمة أغراضهم الفنيّة، واستنفار ما فيه من مثل وقيم حية، ودروس سواء أكانت إيجابية أم سلبية للانتفاع بها واستغلال محمولاتها الفكريّة والاجتماعيّة. ومن يقرأ الآثار الأدبيّة، ولا سيما السرديّة، التي ظهرت في النصف الأول من القرن العشرين يعثر على هذا الاهتمام الواضح بالتراث الشعبي، ومدى إفادة الأدباء من أساليبه وسياقاته في صياغة أعمالهم بلغة بسيطة وخطاب شعبي واضح لا تعقيد فيه ولا تفاصح أو غموض وإبهام، إضافة على ما تحتويه الحكايات من أحلام حول المثل السامية وتجسيد العدالة الاجتماعيّة على الأرض.
وكان انتفاع الشعراء العرب المعاصرين من التراث في شتى وجوهه وضروبه أظهر وأوسع، وهذا ما تجلى في دواوين الشعراء العرب الكبار دون استثناء، في مسعى منهم لدمج الشعر بالحياة وبالواقع الفعلي للناس ودروب عيشهم ومكابداتهم، حيث غدت غالبية أشعارهم حقائق حياتيّة حيّة، ولا داعي لاستذكار أسماء الشعراء الذين عُنوا بالتراث وحقائقه وقيمه؛ فهم كثر... من البارودي وشوقي إلى أمل دنقل ومحمود درويش مرورًا بطيف واسع من الشعراء في سائر أقطار العالم العربيّ الكبير.
من يطّلع على مؤلفات دانتي وغوته وتولستوي يعثر على بصمات واضحة لآداب الشرق وحكمهم وأمثالهم وتصوراتهم الفكرية والمعنوية