محمود الزيودي
صاغ البدو مجموعة من الحكايات للحثّ على السلوك القويم ومكارم الأخلاق في مجتمعهم .. وأغلب هذه الحكايات التي تروي في مجالس السهر ، تعتبر مشوقة للسامع رغم الوضوح في صناعتها وخلط الحقيقة بالخيال ... ولأنّ أغلب أشعار البدو تقال بمناسبة حادثة تتحول إلى قصة تروى مع القصيدة . فإنّ الصانع البدوي ألف قصيدة جزلة المعاني والألفاظ تروي جزءًا من الحكاية المصنوعة إن لم تكن تلخّصها كما هو الحال في قصة ابن عياش الآتية:
"كان عياش صاحب إبل كثيرة ، انتجع بها مراعي خصبة في المناطق البعيدة عن قومه ، مع زوجته وابنه الشاب فرج الله وهو من أشجع وأمهر الفرسان الذين انجبتهم البادية في زمن الحكاية . بعد بناء البيت ( الخيمة ) خرج ابن عياش لاستطلاع الأرض المحيطة بمنزله الجديد، فيما كان فرج الله يرعى الإبل بعيدًا عن المكان .. أحس ابن عياش خلال تجواله بالوحشة في الأرض الخلاء إلا من الحيوانات البريّة ، تمنى لو وجد جيرانًا من البدو ينزلون قريبًا من منزله .. وخلال تجواله صادف فارسًا يتجوّل في المكان، عرف أنّ اسمه عضيب وأنّه ينزل في الجوار مع زوجته وابنته عجايب، وانه خرج يبحث عن جار أو أنيس في ذلك القفر الموحش، أراد عياش أن يكسب جيرة عضيب فأخبره أنه في نفس حالته، ينزل قريبًا مع زوجته وابنته ( طفله )، فلو ذكر ولدًا لربما بقي عضيب بعيدًا عنه . كان سرور عضيب مماثلاً لفرحة ابن عيّاش فاقترح أن يرحل ببنته ويجاوره . يرعيان الأبل سوية وتكون مصيبة عياش أنّ عضيب طلب وضع الفتاتين في خدر واحد ... تظهر الصناعة في الحكاية بذكر الراوي أنّم في ذلك الزمن كانوا يخبئون فتياتهم في خدر خاص داخل محرم البيت ، لا يخرجن منه إلا للحاجة الضرورية . أسقط في يد عياش فأخبر عضيب أنّ ابنته طفله خرساء بكماْ لا تسمع ولا تتكلّم، كما أنّها تعرّضت لحادث حريق شوّه وجهها وهي لا تكشفه لأحد.
عاد إلى منزله وأخبر زوجته وابنه فرج الله بما حدث وأصرّ على ابنه أن يلبس لباس النساء .. وأن يعيش مع عجايب في الخدر كفتاة خرساء بكماء اسمها طفله، وأن لا يكشف عن وجهه أمامها وأن لا يمسّها بسوء حتى ينتهي موسم الربيع ويرحلون إلى ديارهم، وهكذا صدع الفتى لرغبة والده وقد ساعده شعر رأسه المرسل على التخفي بالإضافة للنقاب الذي يغطّي وجهه ما عدا العينين ....وخلال إقامة فرج مع عجايب في الخدر . كان يتفاهم معها بالإشارة بيديه بشكل بدائيّ ولا يزيح النقاب عن وجهه رغم محاولات عجايب التي لم تكشف وجهها فقط . بل كانت تتجرد من ملابسها وتستحم في الخدر أمامه، خلال أيام شكّت بكل ذلك التحفظ الذي تمارسه رفيقتها طفله، أخبرت والدتها التي نصحتها بتفقد فراش طفله في الصباح والمقارنه بينه وبين فراشها، ذات صباح خرج فرج الله لقضاء حاجته فقامت عجايب بتفحص فراشه المجاور لفراشها فوجدت صوف الجاعد فوق فراشه مفتول مثل الخيوط لكثرة حركته في الليل وهو ينام بجانب أنثى، بينما كان صوف فراشها عاديًّا فهي فتاة تنام إلى جانب فتاة كما تعتقد. تأكّدت ظنون عجايب أنها تعيش في خدرها مع رجل، واستغربت عدم مبالاته بجمالها وجسدها . فهو يستدير ناحية ويتشاغل بأيّ شيء خلال تجرّدها واستحمامها .. أرادت أن تزيد من محنته فقامت بنفش صوف فراشه ليغدو طبيعيا مثل فراشها ودعت والدتها لمشاهدته فظنت الأم انّ ابنتها تعيش مع فتاة مخبولة خائفة، وطلبت إلى عجايب أن تصبر حتّى ينتهي موسم الرّبيع فيرحلون مودّعين جيرانهم ... ذات صباح فوجئ عياش وعضيب بغزو كثير العدد ينهب إبلهم، ركبا خيلهما ولحقا بالغزاة، يئس عضيب عندما شاهد كثرة الغزاه واقترح على عيّاش أن يطلب من عقيد الغزو بضعة نياق تعيش عائلتيهما من لبنها. ولكن عياش رفض قائلاً: ( لا تخاف هالحين يجي فرج الله )، سخر عضيب من كلام عياش متسائلاً ( من وين يجي فرج الله واحنا اثنين ورانا حرمتين وبنتين مخبيات بالخدر ؟؟) أصرّ عياش على الصبر ومتابعة الغزاة من بعيد.
في المضارب كانت أم طفله تبكي حظها العاثر، فيما أم فرج الله تتلفت ثم تشد السرج على الفرس الثانية وعجايب ترقب طفله التي خرجت من الخدر وقد نزعت نقابها عن وجه رجل اخذ سلاحه وركب فرسه واستعاد الإبل من الغزاة.
اكتشف عضيب مصيبته في عرضه فرحل إلى أقاربه وطلب منهم مساعدته على قتل فرج الله الذي اعتدى على عرضه .. ذات مساء أراد فرج الله أن ينفس عن حزنه وغضبه فأخذ الربابة وبدأ يعزف ويغني القصيدة التالية :
يا كاتب المكتوب يا ابو المكاتيب
يا منحر صوب عضيب الركايب
خذلي سلامي أسرع من الذّيب
اوصل سلامي لا بو عجايب
البنت الشريفه القاعدة بالمراتيب
اللي من سيف ابوها الكل هايب
تسعين ليلة وانا على طيب
كما طفلة مرخي الذوايب
والله ما واتيته بفعل معيب
ولا جيته بكل فعل خايب
ما خوفي نارهم واللواهيب
ولا سيف ابوها شنيع الضرايب
خوفي كلمة تنقال بوسط الاجانيب
يقولوا ابن عياش خان الطنايب
لأنّ الحكاية مصنوعة تلائم رغبة السامع فقد صادف أن عضيب ورجاله كانوا خلف رواق البيت يوشكون على قتل فرج الله ووالده فسمعوا القصيدة كاملة . وظهر عضيب أمام البيت يشكر فرج الله على أمانته وعفته، وتنتهي الحكاية بزواج فرج من عجايب.
حكاية الزيادي
قام الرّاوي البدويّ بصناعة الحكايات التي وصلت إلى سمعه من الآخرين لتناسب مجتمعه وهو يغرف من حكايات وافدة من اليمن كما في حكاية الزيادي، وتقول الحكاية: كان الزيادي من طبقة قضاة الدّم وهي أعلى طبقات القضاء عند البدو ... يقضي بمهارة وفطنة جلبتا له المتخاصمين في القضايا الصعبة من شتّى الأصقاع، مما اثار حفيظة ابنه وشكه أنّ والده ربما يظلم خصمًا دون الآخر مما سيؤثر على أمانته وعلى سمعته بين الناس واقترح على والده أن يتوقّف عن القضاء ... وأصر والده على موقفه، فغادر الابن مضارب والده ونزل ضيفًا على قبيلة أخرى في مكان بعيد جدًا ... . في بيت المضيف الجديد شاهد الابن امرأة المضيف العاقر تغرز إبرة في راس طفل ضرّتها ( الزوجة الثانية للمضيف ) حتّى غيبتها داخل دماغه. مات الطفل وأصرت والدته على اتّهام ضرّتها العاقر بقتل رضيعها، وبسبب غموض الجريمه، قرّر المتخاصمون أن يرحلوا إلى الزيادي ليقضي بينهم، ورافقهم ابن الزيادي وهم لا يعرفونه إلا ضيفًا عابرًا . وتخفّى في مجلس والده معتمدًا على لثامه، واقترح الزيادي على والدة الطفل أن تتجرّد من ملابسها بين الرّجال وسيحكم لها على ضرّتها القاتله، رفضت الأم وشتمت الزيادي لاقتراحه . ... طرح الأمر نفسه على الضرّة المتّهمة بالقتل مقابل براءتها من الجريمة، فوافقت ورفعت ثوبّها حتى الخصر وسارت بين المتخاصمين فحكم عليها الزيادي بالجريمة مما أثار حفيظة أهلها الذين اتّهموه بفضح عرضهم وتجريم ابنتهم، كشف الزيادي الابن لثامَه وأخبر الجميع بصحّة حكم والده وطلب إليهم نبش قبر الطفل وإخراج الإبرة من دماغه، ولم يعد يعارض والده في مهنته.
فيما بعد كتبت هذه الحكاية حلقة من مسلسل محاكم بلا سجون ... وبعد زمن شاركت مع زملاء في مهرجان بغداد المسرحي .. شاهدت للمخرج اليمني صفوت الغشم مسرحية بعنوان ( الحكمه يمانية ) ومعي بعض الفنانين الأردنين الذين مثلوا أدوارًا في حلقة الزيادي التلفزيونية، كانت الحكمة اليمانيّة صورة طبق الأصل عن حكاية الزيادي مع تغيير طفيف، فهي تحدث في قرية، والقاتلة هي والدة الطفل الأصلية الذي أشغلها صراخه عن لقاء عشيقها فقتلت ابنها لتتفرغ لغريزتها، أخبرني صفوت أن هذه الحكاية موجودة في الذاكرة الشعبية اليمنية منذ زمن طويل.
ابن دعيجة
لخّص الراوي البدويّ إحدى المسرحيات الإغريقية وصاغها في حكاية ألبسها ثوبًا بدويًّا كما في حكاية خلف ابن دعيجة الآتية:
كان خلف ابن دعيجة فارسًا من فرسان الغزو القبليّ ممّا جعله مطلوبًا بالثأر من قبائل كثيرة بسبب سطوته وقتله الكثير من رجال القبائل، أعجبت به إحدى الفتيات وأحبته دون أن تشاهده او يشاهدها، وقع خلف أسيرا في قبيلة الفتاة ، اختلف الأعداء على أوصافه فقرّروا قتله ثأرًا برجالهم،وقد أكد قسم منهم أنه خلف. أطلّت الفتاة من خلف الساحة وخاطبت القوم أن الأسير ليس خلف ابن دعيجة بل هو عبد من عبيد الموالي، وهي تقصد الحفاظ على حياته، ولكنّ خلف رفض هذه التخريجة وأعلن عن نفسه وأصر أن يموت فارسًا اسمه خلف ابن دعيجة من أن يعيش عبدًا من عبيد الموالي، وفي نفس اللحظة قال قصيدة جزلة يصعب على أيّ شاعر صياغتها قبل التفكير والتحضير في يومين أو ثلاثة:
استغفري يا بنت يامّ العشاشيج
من قولك اني من عبيد الموالي
انا خلف يا بنت وان يبست الريج
حمايهن لا صار بيهن جفالــي
وفي المسرحيّة الاغريقيّة ( العنب الحامض لمؤلفها فيجوريدو) يرتكب ايسوب جريمة عقوبتها القتل، يفعلها مباشرة بعد تحريره من عبوديّة سيده، ولأن سيده يعطف عليه ويقدّر خدمته فقد اقترح عليه أن يعود للعبوديّة حتّى ينجو من العقوبة، فالعبد ملك لسيده يعفو عنه أو يقتله إذا ارتكب جريمة تستحق عقوبة الإعدام، ولكن ايسوب يصرّ أن يموت حرًا لا أن يعيش عبدًا، وتقفل المسرحيّة على صوته الصارخ، أين هاويتكم التي أعددتموها لرجل حر.
هناك حكايات كثيرة مصنوعة لا يتّسع المجال لتلخيصها ولعلّ في النماذج التي ذكرناها كفاية تعكس غلبة الصناعة في الحكاية البدويّة أو الشعبية، ولا تكاد الصناعة تخلو من غاية: تسلية، أو حكمة، أو رفع لقيمة من القيم.