الطراونة
تعدّ العادات الاجتماعيّة لأيّ مجتمع من المجتمعات جزءًا أصيلاً من ثقافته الشعبيّة، ودليلاً مهمًا على أنّ هذه المجتمعات تمتلك من الرؤى والوعي الديناميكيّ ما يمكّنها من تطوير أدواتها، خاصة إذا ما عرفنا أنّ الثقافة بمجملها ليست مجموعة مكونات ثابتة وجامدة وغير قابلة للتطور.
وفي سياق قراءة التطوّر الاجتماعيّ لمجمل العادات والتقاليد والقيم وغيرها مما يصوغ العلاقات الإنسانيّة بين الأفراد، فأنه يصعب تحديد بدايات هذه الوسائل الناظمة للفعل المجتمعيّ أو إدراك بداياتها وجذورها، لكنّه يمكن القول أن مجمل هذه الجذور التي تطفو على سطع الحراك الاجتماعي في المجتمعات العربيّة تتصف بالتقليد والاتباع وتسويغ النظام العام. فالذاكرة الجمعيّة للمجتمعات والأفراد، تنزع إلى التمسك بما هو جاهز ويلائم فهمها لاحتياجاتها، فالعادة أو التقليد الذي ابتكر ونضج مع الممارسة ليتوافق مع حدث ما، انتقل عبر حلقات زمنيّة من جيل لآخر بما صاحبه من نقص أو زيادة سلبُا أو إيجابُا ليستقر في هذه اللحظة.
وفي المجتمع الأردني عادات وتقاليد وأعراف مهمّة تطوّرت مع تطوّر هذا المجتمع وتغيرت وفق حاجاته ووعيه الذي تطوّر عبر مراحل كثيرة، وكما يقول ابن خلدون: "إن اختلاف الأجيال في أحوالهم إنما هو باختلاف نحلتهم من المعاش"، إضافة لذلك فإن اختلاط أنماط مختلفة من السكان كالبداوة بقيمها المختلفة وعاداتها طقوسها الخاصة مع الفلاحة وعاداتها وطقوسها الخاصة، والحضر الذي ينتج مدنًا ذات وظائف تجاريّة أو عسكريّة أو سياسيّة أو غيرها، أدّى إلى ترسّب ما نعيشه الآن من ثقافة شعبيّة خلال عقود مرت، كانت وعاءً مهّما اختلطت فيه العديد من القيم والعادات والتقاليد، و باتت تؤسس معًا حالة ثقافيّة جامعة.
وبما أنّ البداوة هي أصل القيم وهي المصدر لها كما يقول ابن خلدون، فإنّ مجتمعنا العربي المعاصر من أكثر المجتمعات تأثرًا بالبداوة؛ لأنّه الأقرب لها زمنيًا وما تزال قيم البداوة الأكثر حضورًا رغم انحيازنا شكليًّا لقيم التمدّن.
والجاهة في الأردن هي إحدى العادات الاجتماعيّة التي لا تزال مفتاحًا للعديد من القيم المترسّخة لدى المجتمع الأردني، و تعمل من خلال وعي مجتمعيّ أرسى قواعدها وأصولها خلال فترة من الزمن وتمّ التوافق على شكلها ووسائلها وأهدافها. والجاهة، أو الجاه، أو جماعة الوجهاء الذين يسعون بالخير، في مناسبات اجتماعيّة خاصّة كالزواج أو إصلاح ذات البين، لها أصول يعرفها من يتواجد بها في العديد من المناسبات التي تكون الجاهة فيها مفتاح الحديث أو أساسه.
تبدأ الجاهة حسب الغايّة منها بفرز حضورها(المشاركين فيها) وانتقائهم؛ فإذا كانت الغايّة منها التدخل في قضايا تحتاج من المشاركين فيها الفطنة والذكاء، كالجاهات التي تلتئم للفصل في قضايا الجنايات والحوادث وغيرها، فإنّها في هذه الحالة تكوّن من أصحاب الخبرة المتمرّسين في مقارعة الحجج بالحجج وهي المزايا الخاصة التي ربما يفتقدها كثير من المفكرين والأدباء والمبدعين والمثقفين والسياسيين، لكنّها توجد لدى بعض ممّن امتهن الوقوف والحديث مطوّلا بقضايا الدم والعرض والوجه وغيرها من الأعراف التي أصبحت قوانين بفعل النقاشات المطوّلة في الجاهات الخاصّة بهذه القضايا.
وقد بدأ المجتمع الأردني مؤخرّا الإعلاء من قيمة السياسيين وكبار المتقاعدين، حيث بدأوا يأخذون مكانهم في مقدّمة الجاهات على اختلاف غاياتها، وأصبحوا يتصدّرون الحديث وتكون لهم كلمة الفصل أحيانا، ولعلّ ذلك ناتج عن غياب الأدوار السياسيّة لهم بعد تركهم لمناصبهم مما يجعلهم يفكّرون بالانخراط في المجتمع حيث أسهل الوسائل هذه الطقوس الاجتماعيّة العامّة في حال غياب التأثير لمؤسسات المجتمع المدني الأخرى.
في حالات الفرح تتشكل الجاهات بعيدا عن الانتقائيّة في الحضور حيث بدأت هذه الطقوس أكثر تكلفة من خلال التباهي بعدد الحضور وحجم ما يوزع من ضيافة ونوعه، بعد أن كان فنجان القهوة هو العنوان الرئيسي للجاهة.
وما أن تتشكّل الجاهة وضمن مفرداتها الخاصّة، وعلى اختلاف غاياتها تسير إلى الجهة التي ترغب في مخاطبتها أو التواصل معها، كأن تكون هذه الجهة أهل العروس، أو أهل المغدور، أو أهل قضيّة ما، ليقابلها في الجهة الأخرى عدد من الحضور يتناسب وحجم الجاهة القادمة وقيمتها، وتستقبل بالترحيب بغض النظر عن ما تريده هذه الجاهة لأنّها في الغالب لا تكون من أهل الجاني أو من يطلب الرحمة، رغم أنّها تحمل وزره وتدافع عنه وتسترحم له، أو للّتباهي في حال الأعراس ومناسبات الفرح.
ويمكن تعريف الجاهـة في حالات السعي لإنهاء خلاف عشائري ما، بأنّها مجمـوعة من أفـراد عشـيرة واحدة أو مجموعة من العشائر يرأسهـا شيخ عشـيرة أو أحـد الوجهاء المعروفين بالأخلاق والالتزام والنزاهة وتسعى هـذه الجاهـة لعقـد هدنـة، تحـدّد زمنياً، بين عـشـيرتين وقـع بينهما خلاف لسبب مـا، ثم السـعي بين هاتين العـشيرتين لعقـد مراسم الصلح بعد انتهاء مدة الهدنة .
وغالبًا ما تحصل الجاهة على العطوة وهي المـدة الزمنيّة التي تمنحها الجهة المعتدَى عليها، ضمـن وثيقة موقعة منهم، أمام كبير وأعضاء الجاهــة ، بحيث تلتزم بعدم حصـول أي اعتداء من قـبلها ضد الطرف المعتدي إلى أن تتمّ مراسـم المصالحة النهائيّة، التي ستشرف على تفاصيلها الجاهة نفسها فيما بعد. وصولاّ إلى الصُّلحة وهي الإجراءات التي تعمل الجاهـة على تنفيذهـا، لإحلال الوئام بدل الخصام بين العشيرتين المتخاصمتين، وعادة ما يلجأ كبير الجاهة إلى التنسيق بين الطرفين على تحديد موعد لإجراء مراســيم المصالحة وتتمّ المصالحـة بإشراف الجاهة والتزامها بجميع متطلباتها ، حيث يكون هنالك كفلاء يضمنون حقوق الطرفين ككفيل الدفا وهو الشخص الذي تسند إليه مهمّة حمايّة العشيرة التي كانت قد اعتدت على العشيرة الأخرى، وهذا الشخص عندما يتبرع بقبـول هذه المهمة فإنّه يعلن ذلك علنَا باسمه ونيابة عن عشيرته وبذلك تكون مسؤوليّة الحمايّة ملزمة له ولأفراد عشيرته، وكفيل الوفا وهو الشخص الذي تسـند إليه مهمـة الوفـاء بمتطلبات الصلـح من تبعـات ماديّة وماليّة ، أشترطها المـُعتدَى عليه ، فيبدي أحد وجهاء الجاهـة استعداده والتزامه بالوفـاء بكل هذه المتطلبات باسمه ونيابة عن عشيرته، وصولا إلى القضوة ( جلسة التحاكم والتصالح) التي تفرز الحقوق وتعيدها لأصحابها، وعادة ما تتعرض الجاهة لتقطيع الوجه (عدم الالتزام من أحد الأطراف بالهدنة وشروطها) وهنا تبدأ مشكلـة جـديدة؛ إذ ستطالب عشيرة الجاهة بحقّهـا المعنوي أمام أحد القضاة العشـائريين من ذلك الشخـص الذي خــرق الاتفاقيّة ومن عشيرته التي ينتمي إليها، وهي من أصعب وأخطر ما يعرض على القضاء لأن إجراءات القاضي في هذا المجال ستكون قاسية على الشخص وعشيرته ماديًّا ومعنويًّا واجتماعيًّا، حتى لا يجــرؤ أحــد على خــرق أيّ اتفاقيّة مستقبلاً وحفظ كرامة الجاهة.
ورغم اختلاف المقصد من الجاهة إلا أن فنجان القهوة العربيّة يبقى سيّد الموقف في الجاهات، ويبقى الصمت المرافق له وحالة السكون التي تنتظر من يمسك به، والعيون التي تراقب صاحبه للبدء بالحديث، هي اللحظة المهابة في تفاصيل الجاهة على اختلافها، سواء جاهات الفرح أم الحقوق والمطالبات، ويكون الإيذان بشرب الفنجان هو الشاهد على الموافقة أو الرفض.
ورغم أن المشهد لا يتوقّف عند فنجان القهوة ويتعدّاه إلى من يمسك هذا الفنجان ويعلن أنّه هو من يريد الحديث، وعادة ما يكون بإلحاح من الجاهة أو باتفاق مسبق، إلا أنّ ذلك يتطلّب مواصفات مهمّة كالعلم والإلمام بالأمر الذي جاء يحمله، إضافة إلى قدرات أخرى تتمثّل في معرفة القوانين والمصطلحات والعادات والتقاليد والأعراف للجهة المُخاطَبة حتّى لا يكون هنالك سوء فهم في الحديث قد يؤثّر على الصالح العام، إضافة إلى القدرات الخطابيّة والحواريّة والمظهر المهيب.
وذلك لا يكون شرطًا مهمًّا في جاهات الأفراح حيث يتقدّمها كبار السن أحيانًا أو سياسيون امتهنوا هذه العادة وأصبحوا يلتقطون الفرصة بين الحين والآخر ليذكّروا بوجودهم.
بالمقابل يتفق الجميع من الجهة الأخرى التي تستقبل الجاهة على شخص ما، قد يكون أكبرهم سنًّا، أو أقدرهم على الحديث والمراوغة، أو أكثرهم حضورًا اجتماعيًّا، يتحدّث باسمهم بعد أن يشاورهم في أكثر الأمور حساسية، وقد كانت الجاهة هي وسيلة التخاطب بين جهة وأخرى حيث يتصدّر الحديث وجهاء القوم وأكثرهم درايّة وعرفًا وسلطة، حيث لا تذهب قراراتهم أدراج الرياح وإنما تكون محلّ تنفيذ، فهم الحكماء أحيانًا أو هم من يعقدون رايات الحرب ويديرون الأزمات، لكنّ الموقف الآن تغير جذريًّا في وعي المجتمع حيث أصبح الأكبر سنًّا للتقدير فقط ويلقّن ما يقوله أحيانًا.
ورغم أنّ بعضهم يعدّ الجاهة في الأعراس تكريمًا للمرأة إلا أن النساء تغيب عن الجاهات، لكنْ لا يعني ذلك عدم مرافقتها لجاهات الأعراس واستقبالها من قبل نساء أهل العروس ومشاركة الرجال فرحهم، وذلك لا يكون مقتصرًا في الغالب على النساء التي تربطهن صلات القربى بالعريس والعروس.
ورغم أنّ الجاهة العشائريّة من الصفات الأصيلة في مجتمعنا الأردني ومن أهم ما نتمسّك كمؤشّر مهمّ على التلاحم بين أفراد المجتمع ومؤشّر على تحمّل للمسؤوليّة , وهي من الأعراف الاجتماعيّة والعشائريّة النبيلة التي توارثناها عن الآباء والأجداد، وتأخذ حيّزًا كبيرًا من اهتمام المجتمع لما لها من دور في تهدئة النفوس والسيطرة على الموقف والمحافظة على اللحمة الوطنيّة وحل الإشكال بالطرق السليمة، إلا أنّه لا بدّ من إعادة الهيبة أو القيمة الوظيفيّة لها، ونبذ التطوّر المتعب الذي رافقها، التفاخر المكلف في كثير من الحالات، ويرى علماء اجتماع أن للجاهة دور تربويّ يتمثل في تعزيز ثقافة السلام والتسامح بين أبناء المجتمع خاصّة الشباب، إضافة إلى الانضباط واحترام العادات والتقاليد والتعليمات والقوانين والسير في الإصلاح بين الناس وكيفيّة حل المشكلات، حيث ترنّ في الأذهان عبارة الوئام وتلبية الطلب، وتهدئة النفوس التي يكون بعدها الفاتحة أو الشكر أو الزغاريد: " اشربوا قهوتكم".