أقف مشدودًا على دلالات ذئب الشاعر الفرزدق ومساحة البحث في المرأة الذئب أو الشاعر الذئب، إلى الشاعر البدوي محمد علي عذيمان (1932- 2013)، وهو يقرأ الصورة من منظوره الخاص.
كيف توارث عرب البادية- لدينا- الذئب؛ في حبّهم وآلامهم، وفي ذلك الصوت الموحش الذي يجيء نذيرًا يُعذر فيه الذئب، ويخفّف من دمويّته أنّه دائم البوح في صحراء تزيد من ضراوتها ثلوجٌ تيبّست عليها الريح؟
فلئن كان شعراء الفصيح وجدوا أنفسهم ذئابًا بعد الأربعين، أو أسقطوا من صفاته، فإنّ شعراء البادية أرض خصيبة لدراسات أكاديمية، إذا ما وقفنا على محفزات هذا التلبّس. وهي دعوة إلى قراءة نفوس متعبة، وأفق يتسع أو يظلّ على واقعيّته، في مقاربات تثري وتكشف عن كنوز ضاعت برحيل هذا الشاعر أو ذاك.
يطالعنا طلبة الدراسات العليا والنقّاد بالذئب ثيمةً مرتدّين إلى الصورة الأولى، وليتهم ذهبوا إلى نتاج ابن عذيمان نموذجًا بدويًا في شعوره الإنسانيّ تجاه الذّئب وموافقته (صاحبه) على ذلك الصوت الخفيض الذي لا ينقطع عند شاعر البادية؛ غير ملتفتٍ إلى ما وُسم به الذئب من نيّة فُرضت عليه وبين أضلاعه منذ أن وصف بالغدر.
عام سبعين من القرن الماضي كان الشاعر وثلوج منعت الناس، أمام زوجة حديثة الموت وطفلة لم تطّلع بعد على وحشة الموت، ظلّت تمدّ الجسد بشحنات اعتادتها،.. في بادية ممتدة كان ذئبٌ بكلّ انكساره يعلو بالصوت وينخفض بالشاعر الذي اختلط لديه الإحساس، في مشهدٍ هو للخيال أقرب، أمام هذا الضيف.
في 12 بيتًا يتوحّد بين الذئب والشاعر المصير، مع استعطاف وتحبّب، فعظم الفقد عند الشاعر يغدو أمامه هم الذئب ضئيلًا، فهي حالٌ مشتركة تدعو إلى التآلف:
)يا ذيب ياللي توحش القلب بعواك// أشوف حالك صايرة مثل حالي// إنتا عويلك يوم فاتك معشّاك// وانا عويلي من تيتّم عيالي// وان كان إنتا فاقدٍ من خويّاك// وانا فقدت من الخوي الغوالي// أنا خويّك بصعوبات مسراك// وان كان تبغاني خويٍّ موالي// وان كان حظي مثل حظّك تعدّاك// يا شيب عيني من غبون الليالي// يا قلب ياللي حيّرك ضيم بلواك// اصبر على مرّ الشقا والهوالي// بلكي ان ربّك يفرج الهم يدعاك// عقب السنود يريّحك بالسهالي// لَصار ما تقبل الدنيا تنصّاك// ما يجيبك الا مانعات الحبالي// إيّاك من سود الليالي تغشلاك/ ويعتم عليك الضّو عقب الدَّلالي.).
أجدني منحازًا الانحياز كلّه لهذا الشاعر الذي ودّعناه عن ثمانين عامًا ظلّ فيها مبدعًا في كلّ مقطوعاته، وصحح كثيرًا من المرويات الشفاهيّة للقصائد؛ وقد وقفتُ طويلًا أمام قصيدته المعبرة (الشيب) التي أراد أن يوقف بها الزمن، فلا يموت.
نعم!..غيّب الموت أحد أبرز شعراء النبط في الأردن محمد علي عذيمان بعد رحلةٍ طويلة مع الإبداع، قدّم خلالها احترافًا عاليًا في قول الشعر وعزف الربابة، وترك إرثًا هائلًا من المرويات والقصائد.
الشاعر الذي وافاه الأجل في مستشفى المفرق بعد مرض عضال، قدّم الرواية الحقيقية للقصيدة المشهورة (يا طروش) مصحوبةً بمعزوفة حزينة جدًا على الربابة، وموجودة في أشرطة لا يخلو منها كلّ بيت أردني وعربي محب لقصص البادية وما فيها من عبر وأحداث.
في ثمانينات القرن الماضي وما تلاها كان ابن عذيمان في بيوت الريف والبادية يقلّب ربابته على الشروقي والهجيني، صادحًا بقصيدة يا طروش؛ كانت دموع ساخنة يبذلها المتذوقون على القصيدة التي تروي حزن الوالد الذي لم يلتفت إليه أبناؤه، وخلوه صريع الأحزان؛ وقد (تبعوا شور نسائهم)؛ فلم يكترثوا بالوالد الذي أينما حل عليه الظلام نام:
يا طروش ياللي ناحرين المراجيب.
تريضولي واقصروا من خطاكم.
واخذوا كلام الصج ما به تكاذيب.
يا موافجين الخير حنا وياكم،
هديت بكم راجل ووادي سلاحيب.
ولقيت بالصبخة مدافيج ماكم.
أحفيت رجلي بسموم اللواهيب.
وخليت لحم الريم يخالط عشاكم،
وقمت اتعكز فوق عوج المذاريب.
وقصرن خطايا يوم طالت خطاكم،
عاد إن خوالكم مرويين المغاليب،
ما تعلموني هالردى منين جاكم؟!،
أمشي مع الخلقان وارافق الذيب،
من خوف لا ينقص عليكم عشاكم،
أجيبكم عن الوعر مع تداريب،
من خوفتي يا آبوي عايل يجهد بلاكم،
من آني مشانيكم بين الاجانيب،
لكن عملكم يا عيالي شناكم،
تروشوننا روش النعاج المهاريب،
والا حديّا يا علي من نساكم،
اهبوا يا جيل الخنا كلكم عيب!،
ياللي على الوالد كثير لغاكم،
لا بد أسكن بالحفور الضنابيب،
ولا مت ما افرق طيبكم من رداكم،
إنتم اتبعتوا اليوم صفر العصاليب،
ما هن معزه سود الله قراكم،
ريت العذارى لا تحبل ولا تجيب،
وتقعد بطالة سالكاتٍ بلاكم،
وعسى قمركم لا يظهر ولا يغيب،
والشمس مطمية ويعتم سماكم!.
أخذت عن محمد علي عذيمان الغياث القصيدة شفاهًا في جولة ثقافية في الخالدية وجوارها على هامش مهرجانها الذي شارك فيه عرب وشارك به ابن عذيمان بقصيدة حازت إعجاب الحضور والرجل يتقلب على جمر الأبيات: (أعِز نفسي كانها النفس تنعز، واحط نفسي مع نفوس عزازي، ولا اضيع الهقوة ولو كنت ملتز، وازبن عن الخملات روس النوازي، الصدق نور وصاحب الصدق ينعز، ونمشي عن ادروب الردى بالعزازي، أظن قافي لا بدعته مركز، ومحفظينوا عن كلام المهازي).
قال ابن عذيمان إنه يؤلمه أن يجور المطربون هنا وهناك على قصيدنا، ويحرفونه عن مواضعه، ويشوهون مخارج حروفه، وسار الشاعر بليغًا متدفقًا بقصائد له ولغيره؛ والأهم أن تشبيهات الشاعر كانت تجبر حتى الكاره للشعر النبطي على الاستماع والإقرار بتفاصيل الحياة القاسية وعذوبة الكلمة المخففة عن كثير آلام.
قصيدة الشيب ملحمة تستحق العناية وهي القصيدة التي أراد الشاعر أن يوقف الزمن فيها عند نقطة معينة؛ فلا يشيب عارضه دليل انتقال من حال إلى أخرى، وتكفي الأبيات التالية التي تدل ألفاظها وقوة سبكها وموسيقاها على مأساة الرجل الذي ألقى بالمرآة جانبًا، وقال:
(الحمد لله ابيض الشيب لاحي/ من فوق وجنات العوارض ظهر بي/ والقلب من كثر الصواديم راحي/ ولا هو على يمة سنوعي نحر بي/ أكور همي من المسا للصباحي/ واعد ما يضبط حسابي وضربي/ واجوح جوح الذيب وازْوَد صياحي/ يوم ان زماني باق بيّا وغدر بي/ ومن قشر وقتي صاير بي سناحي/ وبالجورة السودا زماني حدر بي/ يا وجد قلبي عالرفق والمشاحي/ وحظي يوديني على غير دربي).
قد يزداد تعلّق المتلقي بالقصيدة إذا علم مداليل ألفاظها: شبّه القلب بالدلو الذي ذاب وامحى لطول الصواديم؛ جمع صادم، والمعنى أن الدلو يروح يمنة ويسرة حتى يظفر بالماء؛ والتشبيه واضحٌ لا ينكره شاعر!
عودة على قصيدة يا طروش التي يروي ابن عذيمان أنه سمعها من والده قبل سبعين سنة، وأنها للشاعر فريج الفريج الغياثي، وأن خلطًا كثيرًا يتم بينها وبين قصيدة جحيش سرحان الشمري الذي أنكر على إحدى زوجات أولاده تجاهلها له؛ فجمع أولاده وذرفت عيناه بالقصيدة: (قال الذي يقرا بلا ايّا مكاتيب/ ما تعلموا يا اهل العنا من عناكم/ يا عيال هذي لحيتي كلها شيب/ وهذا محل قعودنا في ذراكم/ ترى البلاسة من كبار العذاريب/ وطرق البلاسة ما اطّول لحاكم/ يا عيال لا صرتم ضيوف ومعازيب/ سهل النبا يا عيال ملحة قراكم).
قال ابن عذيمان إن قصيدة خلف ابن دعيج (أنا خلف يا بنت لا نشفت الريج) سعى فنان فيها لاستبدال خلف بذياب؛ وهذا جور واضح مخيف، مضيفًا أنّه سمع أحدهم ينسب لنفسه قصيدة الدرزي جاد الله سلام إلى: (ما لوم عيني لو بكت دمعها دم، وما لومها لو طولت بسهرها/ وجدي على اللي فارق الدار يا عم/ ومن البكا تنزاغ منا بصرها/ أنا صبرت وعيا الصبر يفرج الهم/ وصبري على بلواي محدٍ صبرها/ صبر الحديد اللي تلوى على الحم/ وما جض لو زاد المعلم شطرها).
غاب الرجل وغابت معه كنوزٌ، وما يزال الروّاد يذهبون وتذهب بذهابهم الكنوز!