*مفلح العدوان
لها لغة تختصر السنوات الماضيات، وتستحضر بركة المكان والإنسان قربها، كأنّ تلك الأشجار بقداستها، وقيمتها المعنويّة، تشكّل سجلا يحتضن جوانب من تفاصيل إرث التعلّق الحقيقيّ ببساطة الإيمان والتماهي مع هالات النّقاء المنسوجة باللون الأخضر وبأصابع الأغصان وهي تسبَح بعظمة الوجود.
هي أشجار مزروعة على سجّاد القرى، وكأنّها في حالة صلاة دائمة، صارت معروفة بكثير من الحكايات التي تسرد على ألسنة أهل القرى القريبين منها، بجلال، ومهابة، وتقديس، تارة كونها معمّرة وحاضرة منذ مئات السنين، وتارة أخرى يسردون الطقوس التي ارتبطت بها، فصارت وجهة لكل من يريد التبرّك بهذا الأثر الطيّب الحاضر في قامة تلك الأشجار، وهنا سيكون سرد لحكاية بعض تلك الأشجار، يرويها الأهل القريبون منها، بكلّ قداسة وتقدير.
هذه القراءة لحضور التصوف في هذه الأماكن، يقود إلى إعادة اكتشاف وتتبع مسارات المهابة، والأماكن المقدسة، أو المباركة في تلك الأمكنة التي يميزّها ارتباط حقيقيّ بالشجر، وببركاته، ولعلّ الطبيعة الزراعيّة، وبساطة الناس، والشوق لكل ما هو غيبي، فرض هذا الحضور.
غير أنّ استعادة الموروث حول ذاكرة القداسة للشّجر عند العرب، لا يجعل هذا المظهر جديدا، حيث روى الطّبري أنّ العرب كانت تعبد نخلة نجران، وكان يظنّ الأهلون أنّ الإلهة العزّى تقطن بعض الأشجار، وكان في مكة قديما شجرة تدعى دوحة العنوات، وكان الأعراب يعلّقون عليها الأسلحة وبيض النعام. كما نقل بعض العلماء العرب أنّ شجرة المناهل تستقر بها الأرواح، ولذلك كانوا يعلقون في أغصانها لحمًا ويذبحون لها ذبائح، وكان الأقدمون يدّعون أنّ هذه الأشجار المغروسة بالقرب من الهياكل تنطق بالأسرار الغامضة والرموز الخفيّة، لذلك كانوا يدعونها بشجر النبوّات.
كما كانت عبادة الأشجار شائعة عند الكنعانيين والفينيقيين، وكانوا يقسمون بالأشجار، وما زال القسم في القرى الأردنية بالشجر حاضرا، ومنها القسم الدارج: "وحياة العود، والرب المعبود".
وإن أكثر الأشجار نموًا يكون بالقرب من مقامات الأولياء، فكان الزعم بّأنها تتخذ قوّتها من هؤلاء الأولياء، أو قرب رجوم أحد القتلى، أو عند ينابيع مياه مقدّسة، ومن الأشجار التي كانت مشهورة في الأردن شجرة وادي الحبيس في ماعين، وشجرة القصر في الربة، وأشجار النبي يوشع في السلط، وشجرة الحنيطي، وشجرة المصلى، وشجرة النبي جادور، وشجرة أم شجيرة في ذيبان، وشجرة السلطاني في قرية عراعر، وشجيرات الحيرة في الكورة، والميسه في الكرك، وشجرة النبي في الصفاوي، وغيرها.
شجرة الصفاوي .. خضراء كقداسة النبوة !!
الريح عجوز لا تنام، تطوف على ملكوت الثرى، وتوقظ الأشياء من سباتها، تنفض عنها قماط السكون.. تحيي المخبوء فيها.. هبت نسمة.. ارتحلت مقبلة، فرحة، مجتازة الصحراء، والبحر، والغابات.. أتت بشوق.. ها هي في الصفاوي.. شرقًا، في جوف صحراء الأردن، تبحث عن غالية هناك.. تفتش عن خضرة تعانقت فيها القداسة، بمعنى الحياة، في تلك الشجرة.
هبت نسمة .. مرّت على الشجرة فعلق بها أثر من ريح النبوة.. ولم تغب.. لم تستطع الرّحيل فأقامت هناك كأنّها بعض ريح الجنّة.. وارتاحت تحت غصون الشجرة المباركة، وهي تداعب هنالك التراب.. فرحتَ.. تعانق الآن، برهافتها، ذكرى ألف وخمسمئة سنة، هي عمر شجرة البقيعاويّ في صحراء الصفاوي شرق الأردن.. اهتزّت الشجرة، فرحت أوراقها، أنّ الريح تقرأ لها تاريخها، مذكرة إيّاها بقداستها.. ردّت، كأنّها تتذكّربعد طول صمت: كثيرون مرّوا علي..
قوافل ، فرسان ، حجاج ، تجار ، رعاة ، وأشراف ..
لكنّ واحدًا فقط هو الذي علق في سويداء الذاكرة ، وبارك هذا المكان ..
لقد مرّ مرّتين ..
محمد بن عبد الله ، صلّى الله عليه وسلّم ..
باركني بمجيئه من هنا في رحلته إلى الشّام ، كأنّه شعر بوحدتي فبدّل وحشتي أنسا ..
هزّت الفرحة الريح والشجرة ..
كرنفال قداسة ، وبهجة ، لفّت الرّيح الشّجرة بموسيقاها فرقصت الأغصان معها واخذت الشجرة تلوح أغصانها إلى السماء والأرض والتراب وهي تناجي بكل تصوّفها آثار تلك الذكرى فيها .. لقد كان هنا النبي وباركها ظلاً خالدًا له..
أشجار "أبو الوفا"
هذه المهابة التي تحيط بقريتَي عبين وعبلين (تقع قريتا عبين و عبلين ضمن مناطق بلدية الجنيد ، وتتبع إداريا إلى قضاء صخرة من لواء القصبة في محافظة عجلون)، تكاد تضفي بمعالمها على المسمّيات فيها، وإذا كان للآثار نصيب حافل من العراقة والقدم، فمن المؤكد أن القداسة التي صارت ترتبط بغير شجرة من أشجارها تجعل من المهابة سمة أخرى لهاتين القريتين، ولعلّ أشجار أبو الوفا التي يمكن الوصول إليها عبر طريق محاط بأشجار العنب والخضرة يعطي شعورًا بالوداعة والسكينة ما أن يصله الزائر المشتاق هناك، حيث عدّة أشجار مباركة تنسب إلى الشيخ أبو الوفا الذي يوصف بأنّه لا يرُدّ أحدًا إذا طلبه، وكانوا يأتوه ويطلبون منه وهم يهزّون أغصان أشجاره، ويسألون عن الغائبين، أو يطلبون الخِلفة بعد طول انقطاع، ويقال إنّ أبو الوفا كان رجلاً من المباركين الذين سكنوا المكان واسمه مأخوذ من الوفاء ونصرة المحتاج، وإنّ قبره موجود تحت هذه الأشجار العتيقة في الرجم الموجود هناك، وحين تمّ الحفر في المكان وأخرجوا منه سيف أبو الوفا وكان من الذّهب الخالص.
أشجار "أبو الشعر".. وشجرة الشيخ محبوب
أما أشجار ابو الشعر فهي من السنديان مزروعة في مكان آخر من عبلين وعمرها يزيد عن 700 سنة ضخمة عتيقة في منطقة مأهولة بالسكان، ويروي القدماء من القرية أن الملك عبد الله المؤسّس في أيام الإمارة كان يخيّم تحت هذه الأشجار في بعض الأحيان.
وتوجد هنا، أيضا، شجرة الشيخ محبوب التي يقال إن الشيخ علي المومني كان يجلس تحتها ويعطي دروسه من هناك ، وكأن الشجرة بقيت حافظة لتلك التعاليم مخلصة لعهدها مع الشيخ صاحب الطريقة الذي أسس نهجًا في القريتين وبعض القرى الأخرى المجاورة ، فكان انعكاس أثره حتى على الشجر بعد أن غسل كثيرًا في نفوس البشر !!
مقام البطمة.. شجرة الفقير.. مقام الصخراوي
بحثًا عن الأشجار المباركة، سيكون الوصول إلى قرية صخرة، الواقعة ضمن مناطق بلدية الجنيد في محافظة عجلون، حيث شجرة البطمة، التي يتبارك بها الحاضرون، فيتفيأون ظلال تلك "البطمة" داخل القرية، التي أخذت قيمتها من رجل صالح تفيأها، وربما أقام تحتها أو دفن هناك، لكنها صارت مباركة، وصار اسمها "مقام البطمة".
تلك الشجرة، التي جار عليها أهلها حديثا، فقطعوا بعضها، بقاياها ظلت صامدة شاهدة على أعراس القرية، إذ لا بدّ من أن تصمد عروس القرية تحت البطمة قبل أن تأتي الخيل لتأخذها من هناك، وتبدأ الزفة من عند هذه الشجرة المباركة ليحلّ الخير عند تلك العائلة الجديدة، وكان "الطهور" أيضًا يتمّ تحت تلك الشّجرة، حيث القرية كلّها تجتمع هناك متباركة بمقام البطمة.
أما في موسم الحج فيكون لشجرة البطمة بركات تنثرها على قوافل "المحمل الشامي" (وهي قوافل الحجاج القادمة من الشام كانت تتجمع وتنطلق معًا لتحمي نفسها من غارات البدو).
كانت هذه القوافل تستريح هناك حيث يجتمعون، ويتباركون بالشجرة، قبل أن يكملوا مسيرهم إلى الأراضي المقدّسة في الحجاز.
يرحل الحجاج، وتبقى البطمة مقامًا يقابل ذاك المقام الآخر على التلة الموازية التي تقع فيها "شجرة الفقير"، توأم شجرة البطمة قداسة وبركة، وهي هناك قريبة من الأعالي مزدهية واضحة ولها الأثر ذاته حين كان يستظلّ بها "فقير من أهل الله" فأطلق اسمه عليها وصارت "شجرة الفقير" .
بين مقام البطمة وشجرة الفقير يترسّخ بنيان "مقام الصخراوي"، بضع حجارة، وقنطرة باقية في منتصف القرية التي أهملت ترميم بنيانه، إلا أنّ الجميع هناك ما زالوا يقدّسونه، ودائمًا يتذكّرون رايات المتصوفة التي كانت تنكّس بقوة من تأثيره حين كان يمرّ موكب أمامه.
تبقى تلك الرايات مرفوعة طيلة مسيرتها. وما أن تصل قريبًا من الصخراوي حتّى تنحني وتبقى هكذا إلى أن تتعدى المكان الذي صارت ذاكرته تشبه تهاويل الأساطير، يتقرّبون منه بالذكر، ويمرّون بجانبه بكل ألفة وتعظيم حتى صار جزءًا من كيان القرية وبعض رصيفها.
أشجار الخضر
هي أربع شجرات, وتحتها أطلال حجارة تشي بوجود قبور أو مقام لرجل صالح، لكنّ أهل قرية سامتا التي تقع ضمن مناطق بلدية عجلون الكبرى، يقولون في سردهم الشعبي، هنا كان موقع أشجار الخضر، وهذا مزار له، وكأنه مرّ بسامتا، وقبل أن يصل قرية صخرة استراح هنا فاقترن المكان باسمه، وصار المحتاجون يأتون ملهوفين إلى هذه الشجيرات طلبًا للعون والحاجة، بينما يروي أهل سامتا أنّ من كانت تتأخر في الزواج ولا يأتيها عريس، تزور شجيرات الخضر، وتمسك بأوراقها وهي تردد: "أجيتك يا خضر زايره، كل البنات تزوجت وانا بعدني بايره".. وتكمل دعاءها وأمنياتها قبل أن تعود إلى القرية من زيارة أشجار الخضر.
شجرة المقبرة
الذي يزور قرية "راس منيف" (تقع قرية رأس منيف بلدية عجلون الكبرى، لكنها تتبع إداريا إلى قضاء صخرة، من ضمن لواء القصبة في محافظة عجلون)، لا بدّ أن يمرّ أمام المقبرة فيها، ولسوف تبهره ضخامة الشجرة المزروعة بين القبور، فهي أقدم منها، وربما أقدم من كلّ الأموات المدفونين هناك، لأنّها سنديانة عمرها أكثر من مئتي عام.
يقول الحاجان(محمود وعلي القضاة) من كبار القرية، أن هناك شجرة أخرى مثلها في القرية إلا أنه تمّ "شلعها" وقد بنوا مكانها الجامع الذي كان يتّسع في بداية بنيانه لخمسة وعشرين شخصا فقط ، قبل أن يرمموه في السنوات الأخيرة ويوسعوه.
أما "شجرة المقبرة"، فقد كانت حافظة أسرار الناس، والشاهد على جزء من تاريخ الناس في القرية خاصة أنّ الكهول من أهل راس منيف "فكّوا الحرف، وتعلموا القرايه قريب من شجرة المقبرة". ويقول الحاج محمود القضاة عن تلك العلاقة التي تربط الشجرة بالمقبرة وبتعليم أهل القرية، إن الشيخ علي السلمان (أبو نوح) الذي يقع قبره قريبًا من الشجرة قد توفي في 24 رمضان 1409ه، وقد كان أهل القرية يعتبرونه "رجلاً صالحًا ومثل ولي يتباركوا فيه". في تلك الفترة كان الشيخ الفقير يؤم في الناس بالجامع وكان يُدرّس أبناء القرية اللغة العربيّة والقرآن، وكان يسكن بخربة "عفنا"، لكنّه في أيام الصيف كان يدرّسهم تحت هذه الشجرة، وكان التعليم في تلك الفترة "كُتّابا"، و "الطالب يعطي للخطيب بيضه ورغيف وعود حطب (يستخدمها الخطيب حتّى يتدفأ الأولاد عنده في الشتويّه، وكان الطالب "اللي يخطي(يخطئ) يحطّه الخطيب في بيت الطابون ويضربه بالخيزرانه".
مزار عمري
قرية يرقا، جنوب غرب مدينة السلط، لأهلها ذاكرة مباركة مع مزار عمري، الذي
كان مقدسًا، ومباركًا بالنسبة لهم، وكانوا يتذكّرونه بمهابة، وبإجلال، وهو عبارة عن شجرة بطمة، وحولها حوطة، ولهذا فقد كانوا يتباركون بالشجرة، وكانوا يؤَمّنون أغراضهم عندها لاعتقادهم أن لا أحد يجرؤ على التعدي على حرمة مزار عمري. كما أن أعراس القرية لا بدّ أن تمرّ من عند مزار عمري، إذ إن طقس زيارة العرسان لـ"حوطةعمري" كان جزءًا مهمًّا للتبارك به، ولحفظ النسل.
لكن الآن لا أثر لهذا المقام، إذ إنه تمّ اقتلاع الشجرة، وشقّ شارع في مكانها، غير أن أهل القرية يتذكرون أن تحت هذا الشارع كان مزار عمري.
"شجرات المِجنّة"
هناك.. في قرية ياجوز التي تقع في الضواحي الشمالية لمدينة عمان، على الطريق المؤدي من صويلح إلى الزرقاء، وسمّي باسمها (طريق ياجوز)، يوجد في القرية، عند المقبرة، أربع أشجار ضخمة من البطم، وهي تعود في تاريخها إلى أكثر من ألف ومئة وخمسين عامًا، ويطلقون عليهن اسم "شجرات ياجوز"، وأحيانا "شجرات المِجنّة".
سقطت واحدة من تلك الأشجار، حديثًا، بعد العاصفة الثلجية العام 2014، وهي تلك الشجرة التي كانت تحتضن بقايا حجر في ساقها، ويقال بأن حجمها كان أكثر من خمسمئة كيلو غرام، جرى تكسيرها، لكنّ هناك بقايا منها موجودة وملتصقة بالشجرة، كما أنّ شعار الجامعة التطبيقية المقامة على حدود القرية يحتوي على شجرة تحمل صخرة كبيرة، في إشارة منهم إلى دلالة المكان، وارتباط الحجر بالشجر والإنسان.
وبحسب أهل القرية، فإنّ هذه الأشجار "كُنّ عشرة إلا أنّه تم قطع أربعة منها وبقيت أربعة، وكان هناك اثنتان عند موقع (مقعد مدراج)، وواحدة عند (العين)، لكن تم قطعهن، وما بقي إلا الأربعة اللي عند المقبرة".
ويشير كبار القرية إلى أنّ هذه الأشجار مباركة، ومقدسة، ومن كان يجرؤ على إيذائها كان يصيبه الضّرر، وكانت العناية الإلهية تنتقم منه، انتقامًا لتلك الأشجار، ويوردون بعضًا من هذه القصص حيث يقال إنّ أحد الرّجال كان يقطع من أغصان إحدى تلك الأشجار ليشعل نارًا ليعمل الشّاي، فأصابته صعقة كهربائية من أسلاك الضغط العالي فوق الأشجار.
ويضيفون، في السياق ذاته، قصة عن اثنين حاولا أن يقطعا شجرتين، فأصاب أحدهما مرض جلدي، وامتلأ جسده بالحبوب والقروح، حتى توفّي، أما الثاني فيقال إنّه حلم أنّه تم إطلاق النار عليه، وبالفعل "انطخ في نفس الليلة"، ويقال إن الأوّل ما كان عنده خلفه، فانقطع عقبه، والثاني مات وعنده بنت واحدة.