الطين مادة تكاد ان تكون متوافرة في كل مكان في الأردن وخصوصا في وادي الأردن، وهي مادة طبيعية ذات خواص تؤهلها لتكون مادة بناء رائعة بمعنى الكلمة من حيث العزل الحراري والمائي وسهولة التشكيل والبناء والملائمة البيئية وأخيرا الكلفة التي يمكن ان تؤول الى الصفر وبمعنى آخر يمكن للعائلة ان تبني بيتها بنفسها.
عرفت المجتمعات في الأردن العمارة الطينية منذ القدم ويمكن تتبعها الى ما يقارب 7000 عام، ومن الأمثلة على ذلك موقع أبو حامد شمالي وادي الأردن حيث تطورت المساكن من الحُفر الى الشكل الدائري ومن ثم الى اشكال هندسية أكثر تعقيدا والتي بنيت من الطوب الطيني المجفف في الشمس. وفي هذا السياق بدأت تظهر أنماط محددة من التصميم المعماري والتصميم الداخلي تعكس الحاجة والوظيفة والاعتبارات البيئية. ويقدم متحف الأردن نموذجا لبناء بالطوب الطيني من موقع أبو حامد أٌعيد إنشاؤه بمقياس 1:1. ويبين النموذج استخدام الطوب المحدب من أحد الجوانب والمستوي من الجانب الاخر في بناء الجدران المزدوجة بالإضافة الى سقف من القصب مغطى بالطين.
العمارة الطينية في الأردن هي جزء اصيل ومميز من العمارة المحلية والتي يتم توصيفها بأنها عمارة بيئية (vernacular architecture) وفي هذا السياق نجد مبانٍ أنشئت من الطوب الطيني بشكل كامل او جزئي باستخدام الحجر إضافة الى الطين أو بتوظيف الطين كمادة خاصة لإنشاء العناصر الوظيفية الداخلية والخارجية كالكواير (خزائن طينية داخلية تستخدم لتخزين الحبوب) والطوابين (الافران التقليدية)، والتي تم توظيف اسطحها لإظهار زخارف هندسية او نباتية إضافة لوظيفتها.
تتواجد العمارة الطينية في العديد من مناطق الأردن ولكن بتركيز أكبر في وادي الأردن ومناطق البادية الشرقية، ونجد امثلة العمارة الطينية أو ما تبقى منها في الشونة الشمالية ودير علا وغور الصافي وجرف الدراويش والجفر والصفاوي.
إضافة لكونها موروثا ثقافيا واجتماعيا، تشكل العمارة الطينية نموذجا فريدا للاستدامة وبحيث تحقق مبادئها الأساسية بيئيا ومناخيا واجتماعيا واقتصاديا، فهي بلا أدني شك عمارة صديقة للبيئة حيث ان بصمتها الكربونية (carbon footprint) تكاد تكون الأقل مقارنة بمواد وأساليب الانشاء الاخرى.
والسؤال الأبرز في هذا السياق: هل من الممكن إعادة توظيف الطين كمادة بناء في بعض مجالات عمارتنا المعاصرة لأغراض معينة في مناطق محددة وبحيث تستهدف فئات محددة؟ بالتأكيد الجواب ليس مجرد "نعم" او "لا"، فمن المؤكد بأن العمارة الطينية قابلة للتوظيف في إثراء التجربة السياحية لتكون تجربة فريدة إضافة الى ما تجلبه من منافع اقتصادية واجتماعية على الافراد والمجتمعات والدولة بشكل عام، كما إنها تشكل حلاً ناجعاً للعيش والسكن في المناطق الحارة ذات الظروف المناخية القاسية، وهناك العديد من المجالات التي تُعتبر العمارة الطينية حلاً مناسبا لظروفها واحتياجاتها. ولكن الموضوع بحاجة الى المزيد من البحث العلمي والتجارب المستمرة والتي نشهدها اليوم على شكل مبادرات بحثية او تجريبية قام ويقوم بها العديد من المعماريين والمبادرين، اذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر المهندس عمار خماش Ammar Khammash والدكتور مهند طرّاد Mohannad Tarrad ولا يتسع المجال لاستعراض هذه المبادرات وإعطاء المبادرين حقهم من التعريف والتشجيع في هذا السياق.
لقد حفزني على كتابة هذه المقالة القصيرة الزميل العزيز المميز محمد البشتاوي Mohammad Albashtawi من وزارة الثقافة مشكوراً عندما طلب اليَ اجراء مقابلة للحديث حول العمارة الطينية في إطار جهود وزارة الثقافة لإدراج هذا الملف الهام على قائمة التراث الثقافي لدى اليونسكو.
إيهاب عمارين 2022
مدير عام متحف الأردن
عضو اللجنة الوطنية لحماية التراث العمراني والحضري