بابتسامةٍ وتنهيدةٍ والتماعة عين.. يسحبون خيط الزمن الممتد.. جدات وأجداد يروون لنا ذكرياتَ طفولتهم في رمضان.
حيث البساطة والنقاء .. والبرُّ بين الخَلق.. والرضا بما تجود الأرض والسماء.. لا ماء في البيوت ولا كهرباء.. لكن القلوب عامرة بالصَّفح والإيمان تستقبل شهر الصيام بمهابة.
يتحلق الأطفال حول جامع القرية كل يوم، يرقُبون بشوق خطوات الخطيب نحو المئذنة وقت الغروب، حاملين التمر بأياديهم الصغيرة، ليطيروا إلى بيوتهم معلنين بفرح موعد الإفطار.
اليوم الأول عادة ما يبدأ بطبق أبيض تفاؤلا وابتهاجا بالشهر الكريم، تجتمع العائلة على مائدة واحدة فيها ما لذ من خيرات الموسم، صيفا أو شتاء.. نجد عند الفقير أكثر مما نجد عند الغني.. الجود يسود.. والأطباق تدور بين الدور.
بمناسبة يوم التراث العالمي الذي يصادف 18 نيسان من كل عام؛ رصدت مديرية التراث في وزارة الثقافة طقوس وعادات رمضان في إربد بين الماضي والحاضر، وذلك من خلال عدد من اللقاءات الميدانية في قرى إربد عاصمة الثقافة العربية لعام 2022.طالب الروسان من أم قيس يستذكر تلك الأيام قائلا:
كانت حياتنا بسيطة جدا، كنا نحضر الماء من البئر لأن بيوتنا لم يكن فيها "حنفيات"، وكانت العائلة تكتفي على مائدة رمضان بطبخة واحدة تبعا للموسم؛ في الشتاء كان التركيز على أطباق "المكامير" و"المردّد" و"أذان الشايب"، وفي الربيع نأكل "اللُّوف" و"الخبيزة" و"العكُّوب". أما في هذه الأيام فهناك تنوع في الأطباق والأصناف متاحة طول العام، وهدر كبير في الطعام وهذا كله سيحاسبنا الله عليه! وكثرة الأكل تزيد الأمراض.
وكان عمل الفلاح يستمر بشكل اعتيادي حسب الفصول؛ في الصيف أعمال الحصيدة، وفي الشتاء الحراثة.. وهكذا، كان عدد سكان القرية قليلا وفيها جامع واحد، وكان لرمضان احترامه وقدسيته؛ فلا يجرؤ أحد على الإفطار في النهار، ويحرص الرجال على أداء صلاة التراويح وخاصة كبار السن، أما المعايدة فكانت تتم بعد صلاة العيد مباشرة عندما يخرج أهل القرية من الجامع يسلمون على بعضهم البعض. وبعد ذلك جرت العادة أن تتم زيارة القبور لقراءة الفاتحة على أرواح الراحلين من الأهل. ثم يعود كل إلى بيته لزيارة المقربين وصلة الرحم.
أما من الناحية الدينية فكانت الموعظة البسيطة في الماضي تترك في نفوسنا أثرا عظيما، أما اليوم أصبحت المعلومات والثقافة الدينية أكثر، لكن الخشوع والرهبة أقل
وفي ذات السياق يبين ابن قرية خَرجا الدكتور أحمد شريف الزعبي الباحث والكاتب المتخصص بالتراث أن صلة الرحم هي من أهم طقوس رمضان وتتمثل في "عزيمة العنايا" حيث يقوم الرجل بدعوة أرحامه من أخوات وخالات وعمات وبنات الإخوة والأخوات على وليمة الإفطار لنيل رضاهم. ويضيف "تتناسى الناس غضبها وتعمل على المسامحة وترك المغاضبة في شهر رمضان، وتكثر مساعدة الفقراء والمحتاجين من خلال بذل المال والطعام بعيدا عن أعين الناس، كما تقوم العائلة بتهيئة الأطفال للشهر من خلال تدريبهم على الامتناع عن الطعام والشراب بالترغيب والمكافأة وتشجيعهم للقيام بصيام "العصفورة" لجزء من النهار، ومن العادات القديمة تنشيف الكوسا والبامية والبندورة في أيام الصيف لتناولها في أيام الخريف والشتاء، بينما اليوم تتوفر كل الخضراوات طيلة أيام السنة.
ويضيف الزعبي: أما عن المأكولات فكانت هناك أطباق "الدجاج المحمر" و"المردّد" (طبقات من الخبز والبصل والزيت)، و"المكمورة" التي تُحضّر من خلال طبقات العجين وقطع الدجاج، والسماق والزيت، وتوضع في الفرن حتى تنضج. إضافة إلى أكلة المنسف وهو طبق تاريخي قديم. وهو الطبق المشترك لكل مناطق المملكة.
قديما كانت "المجدّرة" و"السّميدة" و"طبيخ الطيّانات" (البرغل واللبن المطبوخ) من الأطباق الشائعة في رمضان، أما الآن فهناك تنوع كبير جدا في الأطباق. وكان لكل منطقة طبخة شهيرة: في الجنوب طبخة "المجلَّلة" و"الزّرب"، وفي الشمال "المكمورة"، وفي العقبة "الصيادية"، وهكذا لكل منطقة طبق تشتهر وتتميز به، بينما هناك أكلات مشتركة مثل "الرشوف" وهي أكلة شعبية معروفة في كل المملكة لكن كل منطقة تصنعها على طريقتها الخاصة، ومع الأيام انتتشرت الأكلات بحُكم المصاهرة والصداقة والولائم، ولم تعد حكرا على منطقة معينة".
أما عن حلويات رمضان يضيف د. الزعبي: كانت هناك أنواع محدودة وبسيطة منها أكلة الـ "حْنينِيِّة" وتُحضّر من التمر المقلي مع الزيت أو السمن البلدي. و"اللزاقيات" وهي خبز شراك مغمّس بالسكر والسمن البلدي أو الزيت. وفي بعض الأحيان كانوا يستبدلون السكر بالقطر وهكذا تصبح "اللزاقيات" هي كنافة العرب. إضافة إلى حلوى "القطايف" التاريخية المشتركة في كل المناطق.
وفيما يتعلق بالطقوس السائدة بعد صلاة التراويح يقول د. أحمد شريف الزعبي: ينصرف الناس بعد صلاة التراويح لزيارة المرضى، أو للمضافات فقد كان لكل عائلة مضافة خاصة بها يجتمعون ويسهرون ويروحون عن أنفسهم بالتعليلة والقصيد والحكايا والسواليف، والحديث بأمور الدين خاصة بوجود خطيب المسجد.
أما عن "التعايش" بين المسلمين والمسيحيين فيؤكد الزعبي أن هذا التعايش بين الأردنيين ليس له مثيل، فنحن نتشارك التهنئة بالأعياد، والشعب هنا شعب عربي أصيل نقي ليس لديه تمييز ولا يفرقه دين.من منطقة الشيخ حسين في الأغوار الشمالية يخبرنا خالد الذيب العباسي وهو مدير مدرسة متقاعد عن طقوس رمضان بين الماضي والحاضر:
كان عدد السكان أقل بكثير، وكان الفطور يتم في مجموعات وكانت المائدة بسيطة تعتمد على منتوجاتهم من المزروعات والحيوانات، كان المسحر يتولى مهمة إيقاظ الناس. بينما اليوم يتم استخدام الأجهزة الإلكترونية الحديثة.خديجة سعيد جمعة عضو بلدية سابق من منطقة الشيخ حسين عرفتنا على "البَحتة" وهو طبق الحلويات الشعبي الذي كان شائعا ويتكون من أرز وحليب مطبوخ ويضاف إليه السمن البلدي. إضافة للمهلبية التي تصنع من الحليب المطبوخ مع النشا ويزيّن بالفستق الحلبي. إلى جانب أصناف أخرى مثل المفتول والدجاج البلدي والمجدرة والملوخية والمنسف والمشروبات الشعبية مثل التمر الهندي.
سليمان العزام من قرية ججين في إربد استذكر رمضان أيام زمان وكيف كان يتم الاستعداد له من خلال تجهيز "الشْعَيرِة" قبل رمضان وهي عبارة عن عجين يضاف إليه الزيت تقوم السيدات بفركِه وتشكيله بقطع صغيرة تشبه حبات الصنوبر، يتم تنشيفها وحفظها لاستخدامها فيما بعد عند صنع الكباب حيث يقومون بقلي الشْعَيرة حتى تحمَر وتصبح مثل الصنوبر وتضاف لطبخة الكباب المهبّلة (على البخار) ولا تزال تُصنع في الرمثا والكفارات.
إضافة إلى طبق الـ "تشعاتشيل" وكانت تطبخ مع الجعدة وليس مع البقدونس وتطبخ بالجميد وليس اللبن.
أكلة أخرى هي الـ "مقطّعة" أو الـ "مقرّطة" وتتكون من عجين مختمر يُقطع بالسكين قطع صغيرة ويطبخ باللبن. وأكلة "الزقاريط" المكونة من البرغل وحبة البركة والسمسم وتوضع أيضا مع اللبن. و"فطائر الكشك" التي تُخبز بالطابون.
ويضيف العزام: كانت تقام "العزايم" والسهرات والقهوة والشاي، ونتناول الهريسة والعجوة.. الأكل كان محدودا لكنه طبيعي بدون أسمدة ومواد كيميائية. كان المسحراتي موجود، وكانت النساء يخبزن بعد منتصف الليل حتى يجهزن الخبز الطازج للسحور. وكانت المرأة هي "وزيرة الاقتصاد" في المنزل وكن يجهزن المونة للدار حسب المواسم.
ومن الحلويات كنا نأكل "الهيطلية" (حليب يُطبخ مع نشا القمح ويوضع عليها السمن)، إضافة للهريسة التي كانت تجلب من الشام، وفي الليل تكون التعاليل، والحياة الاجتماعية كانت أنشط بكثير، ولم يكن الجميع يُحضّر القهوة .. بيت واحد في العائلة فقط يصنع القهوة ويقدمها للعائلة والجيران والأقارب الذين يجتمعون عنده ويمنع على البقية ذلك لارتباط القهوة بتقاليد وطقوس معينة.
وكان التكافل بين الناس والجيران كبيرا يتمثل بإعانة الأهل والجيران ومن أوجه هذا التكافل "المنوحة" حيث يعمل المقتدورن ماديا من أصحاب الحلال والمواشي على (منح) جيرانهم الفقراء رأس أو رأسين من الحلال حتى يقوموا بحلبِها والاستفادة من منتجاتها من الحليب والألبان طول الموسم، وكان البعض يعيدون "المنوحة" لأصحابها بعد انتهاء الموسم، وهناك من يقدمها عطية دون استرجاعها.ومن قرية الطّيبة أطلعنا محمد فرحان العلاونة (أبو أنس) وزوجته (أم أنس) على بعض طقوس رمضان أيام زمان بقوله: بداية يكون الاستعداد النفسي الصادق، وفي هذا الشهر لا يشعر أحد بضيق الحال بسبب التكافل الاجتماعي الكبير، وكان الموسرون يقيمون الولائم التي يُدعى لها الفقراء والأغنياء إكراما لبسطاء الحال وحتى لا يشعرون بالتفرقة. وكانت الموائد كلها عامرة بأطباق من المنتجات والمحاصيل الريفية من الحبوب والخضار، والحلوى كانت القطايف واللزاقيات، ومن طقوس رمضان كان تفقُّد الناس لبعضهم البعض، وكثرة الصدقات، وتفقُّد أطفال الفقراء وتأمينهم بملابس العيد الجديدة. لإدخال الفرح على قلوبهم، فشهر رمضان والعيد محطة تتجلى فيها العبادات، وصلة الرحم، والعطاء.
تذكر أم أنس عن أيام طفولتها برمضان: كان اليوم الأول من الصيام يبدأ بطبخة بيضاء مثل المنسف أو التشعاتشيل أو ششبرك، حتى يكون أول يوم يبدأ على أبيض، إضافة لصنع حلوى الأرز بالحليب. وكانت الجارات تذهب لتحضير الطعام (الصواني) على الدور في فرن الطابون آخر النهار، اليوم يتم تحضير عدة أطباق وليس طبقا واحداً كما كان سائدا في الماضي. وعلى السحور كنا زمان نفتقد للأكل الجاهز.. كان أهلنا يُحضرون اللبنة والزيت والزعتر والأجبان وكافة مشتقات الألبان، أما اليوم فكل شيء جاهز وسهل وفي متناول اليد في كل أوقات السنة، كانت الأمهات تجهز مونة رمضان سلفا، الخبز كان يمر بأكثر من عشرة مراحل حتى يصل الرغيف ليد المواطن، أما الآن نحصل عليه بدقائق وهذا الفرق بين ما كانت تعانيه أمهات الماضي وأمهات اليوم، ورغم سهولة الحياة ورفاهيتها اليوم وتوفر كل شيء دون صعوبة إلا أن هذا الجيل يعاني ويشعر بالتعب.. كل شيء ميسر لكن النفسية تعبانة! زمان كانت "نفسيتنا" مرتاحة نحب بعضنا البعض وقلوبنا نظيفة ومتحابة.