د. محمد عبد الله القواسمة *
برع الكاتب والأديب نايف النوايسة في أجناس وأنواع مختلفة من الكتابة؛ إذ كتب في القصة، والشعر، والمسرح، كما كتب في النقد، وتوغل في دراسة التراث الشِفاهي والكتابي. لهذا، ربما، من الإجحاف الكلام على مجمل ما أبدع وكتب في مقالة قصيرة، أو حتى في بحث منفرد. من هنا سأحاول في هذه المقالة أن أتحدث عن نوع مهم من الكتابة برز النوايسة فيه وخبره. ألا وهو الكتابة في التراث الشعبي.
لا شك أن نايفًا من أهم الباحثين في التراث الشعبي العربي وبخاصة الأردني. وقد عرفته منذ ثمانينيات القرن الماضي المجلات العربية التي تعنى بالفنون الشعبية إلى جانب نخبة من الرواد الباحثين في التراث، منهم: روكس العزيزي، وهاني العمد، وعبدالله رشيد، وطه الهباهبة، وعمر الساريسي وغيرهم.
لقد ترعرع حب التراث الشعبي في وجدان نايف النوايسة منذ طفولته المبكرة، لقد بدأ هذا الحب في البيت، إذ رأى أمه تَخيط الثياب الشعبية، فراح يراقبها وهي تطرز على القماش أشكالًا رائعة. ثم نما هذا الحب في القرية مع ما كان يمارسه وأقرانه من ألعاب شعبية، وما وعيه من المعتقدات والتقاليد والعادات، ومع ما كان يعايشه ويشاهده في مناسبات الأفراح والأحزان، وحضورِه وهو لمّا يزل صغيرًا جلسات القضاء العشائري، وتعرفه إلى الأطباء الشعبيين.
ويذكر النوايسة في مقابلة أجراها معه علي الخوالدة أنه كان في الصف الرابع الابتدائي عندما كان والده وأحيانًا بعض أصدقاء والده يجلسونه على مرتفع من الأرض ليقرأ على الحاضرين إحدى السير الشعبية، مثل: سيرة بني هلال، أو عنترة بن شداد، أو الزير سالم، أو حمزة البهلوان.
كما ترعرع في قلب النوايسة حب المنازل القديمة، والأماكنِ التاريخية، فينشرح صدره لمرأى البيت الكركي القديم ذي الحوش الواسع، وما يمور فيه من حركة للإنسان والحيوان حيث الطابون وحظيرة الغنم. وتنتابه الذكريات التاريخية، وهو يتجول أو يقف أمام قلعة الكرك، أو وهو يستنشق عبير معركة مؤتة من قريته المزار الجنوبي، ويسمع بقلبه صهيل خيولها، ويرى لمعانَ سيوفها، ويترحم على شهدائها.
لم يكن الفضل للأسرة أو مجتمع القرية في جذب النوايسة إلى التراث وعشقه فحسب بل كان للمدرسة مثل هذا الفضل والتأثير أيضًا. ففي المدرسة كان ينكبّ على قراءة كتب التراث، وبخاصة كتبُ الأمثال العامية والفصيحة، وكتبُ الأشعار الشعبية، والحكايات والأساطير والملاحم، وأخبار الأقدمين وتراجمهم.
لقد دفعه حب التراث الذي رافقه في طفولته وصباه إلى البحث فيه، عندما صعد سلم الكتابة، وتكلل ذلك بصدور كتابه «الطفل في الحياة الشعبية الأردنية» عن وزارة الثقافة الأردنية عام 1997، ثم بإنجاز معجمه المهم «معجم أسماء الأدوات واللوازم في التراث العربي» الذي صدر عام 2000، وتوالت جهوده التراثية في توثيق العمارة الشعبية، وإظهار خصائص القرية الأردنية والبيوت الشعبية في الكرك ومعان والطفيلة ضمن مشروعه الذي حمل عنوان» السجل المصور للواجهات المعمارية التراثية في الأردن» الذي صدر الجزء الأول منه قسم الكرك عن جامعة مؤته ومؤسسة إعمار الكرك عام 2002. ثم صدرت له دراسة بعنوان «الوطن في المأثور الشفاهي العربي» عام 2006.
كما كانت للنوايسة أبحاث في التراث الأردني والعربي نشرت في مجلات عربية ومحلية، ومشاركات في المؤتمرات والندوات المتعلقة بالموضوع ذاته. كما أعد المسلسلاتِ والبرامجَ الإذاعية في التراث الشعبي الأردني. ولخبرته التراثية الواسعة والعميقة اختارته منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم وللثقافة (اليونسكو) عضوًا في لجنة تحكيم الملفات الخاصة بالتراث اللامادي عند الشعوب.
لعل من السهل على قارئ أعمال نايف النوايسة أن يلاحظ أنها تركز على الجوانب الإيجابية في التراث، واهمال الجوانب السلبية منه؛ لأنه يهدف إلى إبراز القيم الإنسانية التي يتحلى بها تراثنا، وتعزيزِها في نفوس أبناء الجيل من الحث على مكارم الأخلاق إلى التمسك بالمبادئ الإسلامية السمحاء، واحترام كرامة الإنسان.
كما من السهل على القارئ أن يلاحظ في أعماله الأدبية من قصص ومسرحيات وأشعار تأثرها بالتراث الشفاهي والكتابي العربي والمحلي. لقد تجلى هذا من خلال الحرص على اللغة العربية السليمة، والتراكيب التراثية الواضحة، والتأثر بلغة المقامات وقصص ألف ليلة وليلة، واستخدام كثير مما في التراث الشعبي من أمثال وحكايات وخرافات وأساطير، وتوظيف الشخصيات الشعبية والتراثية. إننا نشتم في أدبه نكهة الماضي العبقة برائحة التاريخ التي ما زالت تبوح بها منطقة جنوب الأردن، وبخاصة مدينة الكرك وما حولها. إنها نكهة ممزوجة برائحة خبز الطابون، وأغاني الحصادين في مواسم القمح، وحكايات الجدات في ليالي الشتاء الطويلة.
ينبع اهتمام نايف النوايسة بالتراث العربي والمحلي في أعماله الفكرية أو الإبداعية من اعتقاده الجازم بأن التراث الشعبي جزء مهم من الحضارة البشرية التي يشبهها بشجرة والتراث جذرها الراسخ الذي لا تقوم الا به. وهو وسيلة مهمة من وسائل المحافظة على وحدة المجتمع وتماسكه فضلًا عن إبراز هويته وخصوصيته، اللتين يجب أن يدافع عنهما أمام الأعداء. لهذا يرى من الضرورة توثيقه، وترسيخ أهميته في عقول الأجيال الشابة، وبخاصة التراث الأردني؛ لأن الأردن يمثل مهد الحضارات البشرية، كما تدل على ذلك المراجع الأدبية والتاريخية والآثار المادية، مثل حضارة الأنباط في البتراء وغيرُها من الحضارات التي ما زالت شواهدها باقية حتى اليوم.
في النهاية يحسن الإشارة إلى أن فهم نايف النوايسة للتراث يستند إلى رؤية شاملة تقوم ــ كما يردد دائمًا ــ على إطلاق الحرية للإنسان واستخدام العقل؛ لأن الإنسان الحر هو من يصنع الحياة، ويقدر على مواجهة الطغاة والمستعمرين. ومن يعد إلى التراث العربي والإسلامي يجد أن الأحرار هم الذين يشقّون الطريق للآخرين. كما أن الأمة العربية تحتاج إلى تشغيل العقل حتى تنهض من كبوتها، فقد ارتدت بعد أن عطلت العقل إلى دهاليز العَتَمة، وسبقتها الأمم الأخرى وهي ما زالت تستمرئ التخلف والتراجع، وكأنها تنشد مع الجحجلول الشخصية التي اخترعها المعري في «رسالة الغفران»:
صلحت حالتي إلى الخلف حتى
صرت أمشي إلى الورى زقفونه