في يوم التراث العالمي.. ماذا نقول

د. حكمت النوايسة

تعورف على أن يكون الثامن عشر من نيسان من كل عام يوما للتراث العالمي، بمسمّى اليوم العالمي لحماية التراث الإنساني، والتراث هنا هو التراث المادي والتراث الطبيعي، وكان هذا اليوم من أجل التذكير بأهمية التراث، وانسجاما مع الاتفاقية الخاصة به الموقّعة في العام 1972 في باريس، في إطار (اليونيسكو) منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة، ولعلّ الباعث على مثل هذا الإجراء هو العبث المتزايد الذي تعرض له التراث الإنساني، مما شكّل خطرا استشعرته الدول والمنظمات المعنية، فبادرت إلى مثل هذا الإعلان، وهذا في العام الثاني والسبعين من القرن الفائت، فماذا نقول في العام السابع عشر من القرن الحادي والعشرين الحالي؟

تراثنا، نحن، العالم، الإنسانية، البشر، باتت تتهدّده الكثير من الأخطار تفوق تلك الأخطار التي كانت وراء الإعلان العالمي بأضعاف مضاعفة، وعندما أقول هذا فإنني أعني التراث الذي بات تحت رحمة المحتربين في منطقتنا، وبات تحت رحمة من لا يقيمون وزنا لأي تراث، فهو بين أن يكون مصدرا للارتزاق والسرقة، وبين أن يكون عرضة للتخريب الممنهج، وهذا وذاك في غياب الرقابة الحقيقية، وغياب الحراسة الحقيقية لهذا التراث، نتيجة غياب الوعي، وغياب المسؤولية المجتمعية، والمسؤولية القانونية، مع فرصة المزيد من الضياع والتدمير، وأنا هنا لا أتحدّث عن الأردن، وإنما عن المنطقة بعامّة، حيث شهدت أجزاء منها حروبا بين الهويات الفرعية القاتلة، أو الهويات السياسية المزيّفة، وكان نصيب التراث منها المزيد من التدمير أو التهميش والسرقة في أحسن الأحوال.

لم نهتم بالتراث الإنساني؟

إنّه الشاهد على الإنسان وإعماره الأرض، شاهد على وجوده، وشاهد على إنجازه، وشاهد على تطوّره، كما هو شاهد على تفاعل الحضارات الإنسانية وانفراد بعضها بميزات واشتراكها جميعا بميزات أخر. التراث لأي أمّة هو مفتاح الهويّة، ومفتاح الدلالة على الوجود الفاعل في إعمار الأرض، وأي تدمير للتراث أو تشويه، إنما يصبّ في تشويه الأمة، والوطن. ولا يوجد نقطة عليها إجماع يقال عنها إنها النقطة التي يبدا عندها ما يمكن أن نسمّيه أثرا، فيمكن أن يكون الأثر من مئة سنة، أو خمسين سنة مثلا إن شكّل الأثر في وجدان الجماعة أو تاريخها مساحة مهمّة، وأما امتداده في السابق، فهو مفتوح منذ أن كان الإنسان على الأرض، ومنذ أوّل أدواته البدائية التي شقّ طريقه بها واستخدمها في حياته، فكل ما خلّفه هذا الإنسان هو أثر إنساني، والحفاظ عليه واجب إنساني.

وإذا كانت الأضرار التي يخشى منها على الآثار الإنسانية في السابق تتمثل في السرقة والنهب والجهل، فإنّها في هذا الزمن تتجاوز ذلك إلى التدمير الذي يمحو الأثر تماما، نتيجة تطور وسائل الصراع المستخدمة في الحروب، فيمكن أن يمّحي الأثر من الوجود تماما بالأسلحة الحديثة، سواء أكانت القصف من الجو، أم بالتفجيرات في الأرض، وقد شهدنا ونشهد مثل هذا في منطقتنا.

اليوم العالمي لحماية التراث الإنساني فرصة لمراجعة مفهوم التراث الإنساني، وفرصة لمراجعة أهمّيته أيضا، أما من حيث المفهوم، فإنني أرى أنّ المفهوم، ما زال غائما مشوبا بالكثير من القلق، ذلك أنّنا نتفق على أن البترا والأهرامات وبابل وغيرها من الآثار الخالدة تراثا إنسانيا، ولكنّنا قد لا نتفق على أنّ قصر الإليزيه مثلا تراثا إنسانيا، لأنّه ما زال بين ظهرانينا، وهذا مثال أودّ من خلاله أن أبيّن أن كثيرا مما تمّ تدميره خلال ( الربيع العربي) هو تراث إنساني، سواء أكنّا متفقين مع بناته أم كنّا مختلفين معهم، كأن يتمّ تدمير قصر كان يعيش فيه رئيس خلعه شعبه، أو خلعته قوّة عاتية قادمة من الخارج، أو تدمير تماثيل أو أيقونات شكّلت جزءا مهمّا من تاريخ شعب من الشعوب في مدّة مهمّة من هذا التاريخ.

كما أنّ البيوت والمساكن التي شكّلت طابعا عمرانيّا خاصّا بمدينة ما تعدّ تراثا إنسانيا، وإعادة بنائها، أو تدميرها لتجديدها هو تدمير لأثر إنساني، كأن يستبدل نمط البيت الدمشقي أو البغدادي أو العمّاني بالأنماط البسكوتية الحديثة من العمران، أو أن يستبدل نمط البيت الريفي بأنماط عمرانية جديدة قائمة على تدمير تلك الأنماط؛ ذلك أنّ مثل هذه الممارسات يمكن أن تشكل أعتى تهديد للتراث الوطني، وبالتالي الإنساني، مما يستدعي وجود آليات تشريعية قانونية لحماية الأنماط العمرانية القارّة التي تشكّل جزءا من الهويّة التي تواضع عليها السكان متفاعلين مع البيئة المحيطة بهم.

ويضاف إلى التراث العمراني التراث الطبيعي، فالطبيعة التي تنوّعت بمعطياتها الجغرافية، الجيمورفولوجية، والمناخية، والبشرية، تركت إرثا قارّا، ترتّب عليه أنماط من التفاعل الإنساني معها، فضلا عمّا ترتّب عليه من تنويع للمعطى الحيوي من نبات وحيوان، وهذا الإرث الطبيعي بات مهدّدا أيضا نتيجة تطوّر الآليات التي يستطيع بها الإنسان تغيير ملامح الطبيعة، أو نتيجة الجور في الاستعمال، مما يهدّد الكثير من الحيوانات والنباتات، كما يهدّد الأشكال الجيمورفولوجية، ومن هنا صار الحفاظ عليها ملحّا، وصار وجود التشريعات التي تحمي المناطق المهدّدة ضروريا، وقد كان في الأردن أن اتخذ العديد من الإجراءات التي تكفل الحفاظ على هذا الإرث الحيوي كإنشاء المحميات المورفولوجية والرعوية، كمحمية ضانا، وغيرها من المحميات، وصارت تحت الرقابة التي تتيح للغلاف الحيوي أن يبقى كما كان، دون جور الإنسان عليه، وهي الآن من أماكن الاصطياف المفضلة لدى الأردنيين والسياح.

في هذا اليوم الربيعي نستذكر أهميّة التراث الكبير الذي يزخر به بلدنا، سواء أكان إنسانيا عمرانيّا أم طبيعيا، ونقول: كل عام وأنتم بألف خير.

© 2024 تطوير وتصميم شركة الشعاع الأزرق لحلول البرمجيات. جميع الحقوق محفوظة