الحلاق: بيت الأسرار وتجمع الأصحاب
                                                                                       
"لا أخفيكم أني لا أود ذكر الشخصيات السياسية المرموقة التي تؤم صالوني للحلاقة، فأجدها معيبة بحقي أن أفاخر بأن فلان يقص شعره على يديّ"، بهذه الكلمات 

يبدأ نبيل شقير صاحب أقدم صالون شعبي للحلاقة في وسط البلد حديثه للفنون الشعبيَّة
ورث شقير مهنة الكوافير، أو الحلاق، عن والده المرحوم الحاج صالح، الذي بدأ في المهنة التي توصف بأنها مهنة اجتماعية خالصة، تحديداً في العام 1933 عند ملتقى تجمع سفريات عمان- القدس- نابلس في وسط البلد، إلى أن انتقل إلى موقعه الحالي سنة 1956، في سوق الصاغة في شارع فيصل، وكان ثمن قص الشعر حينها خمسة قروش.
يروي لنا شقير كيف يتحول الصالون إلى ملتقى اجتماعي وسياسي على مدار السنة ، وبخاصة في شهر رمضان الكريم، فمن أحاديث الزيجات والخطب، إلى الجاهات والعطوات يبقى الصالون مسرحاً ومنطلقاً لتلك الأحداث طيلة العام، ويضيف: لا يمكن أن نحصي كم مرة خرجت ووالدي من الصالون للمصالحة بين تاجرين، أو للوفاق بين متخاصمين من تجار وسط البلد باعة الذهب منهم والقماش أو الخضار.
ويضيف في سرده لتطوير مهنة الحلاقة أن الكوافير كان يتقاضى في خمسينات القرن الماضي على قص الشعر خمسة قروش، وارتفع السعر شيئاً فشيئاً حتى منتصف السبعينات إلى نصف دينار، ثم حدثت الطفرة الأولى بعد ذلك وهي الفترة التي تزامنت مع مجيئه إلى صالون والده حيث تراوحت الأسعار ما بين دينار ودينارين في الفترة من (1976-1990) حيث دخلت على المهنة حلاقة الذقن وتنظيف البشرة والصبغة والتمليس، إلى أن حدثت طفرة أخرى مطلع الألفية الحالية حيث أصبح قص الشعر وحده بثلاثة دنانير.
ولعل ما يميز مهنة شقير أن الساسة والعوام يتساوون تحت مقصه، وهو ما يُستدل عليه برفضه ذكر أي شخصية مرموقة تؤم صالونه إذ يجد ذلك معيباً بأن يفاخر به، ولعل في ذلك سببًا لما يزخر به عقله من قصص الأوائل حين أتى حراس الحجاج بن يوسف الثقفي بثلاثة شباب سُكارى، نجوا من سيف الحجاج بفصاحتهم وكان منهم واحد أنشد شعراً:
أنا ابن من دانت الرقاب له
ما بين مخزومها وهاشمها
تأتيه بالرغم وهي صاغرة
يأخذ من مالها ومن دمها...
وحقيقة، أنقذته فصاحته بعد أن اعتقد الحجاج أنه من علية القوم، وإذا به يقول: "أنا ابن حلاق يأخذ بمقصه وشفرته من مال الناس ودمهم"، فأنشد الحجاج شعراً لحاشيته: 

كن ابن من شئت واكتسب أدبا
يغنيك محموده عن النسب
إن الفتى من يقول ها أنا ذا
ليس الفتى من يقول كان أبي
لدى مجيئنا إلى نبيل وجدنا زبوناً سعودي الجنسية يُدعى أبو عبد الرحمن، وهو تاجر احترف التجارة منذ زمن بعيد، وكان صديقاً لوالد نبيل، وحدثنا برفقة نبيل عن قصص قديمة تعكس أهمية الصالون ودوره الاجتماعي قبل نحو 40 سنة، فيتذكران معاً قصة مغترب باكستاني الجنسية جاء ليقص شعره عند الحاج صالح، وبعد أن انتهى من قص شعره وقام بتنظيف رقبته بالفرشاة، وأزاح عن كتفيه قطعة القماش، همّ الباكساني بخلع قميصه وبقي مرتدياً سترته الداخلية، وطلب من الحاج صالح أن يباشر بقص شعر إبطيه حيث يبدو الأمر طبيعياً ومعتاداً في باكستان، ضحك الحاج صالح ومن معه من الزبائن فقال له: أتمنى من الله أن يتوقف الأمر فقط عند إبطك!! وزجره وطلب منه أن ينهض، وهرب الباكستاني غاضبا ولم يدفع ثمن حلاقته، وهب السوق كله يتعقبه إلى أن جلبوه للحاج أبو صالح، وأخرجوا من جيب الباكستاني ستة قروش قائلاً (أنا قرش حامل ستة) فضحك كل من في الصالون، ورفض الحاج أبو صالح أن يأخذ منه المال. 

 

 
وبالعودة إلى نبيل فإنه لا يخفي حجم الثقافة التي اكتسبها، السياسية منها والاجتماعية، بعد أ كثر من 40 عاماً في المهنة، ويقول أصبحت اليوم كاتباً صحفياً أقدم في كل أسبوع مقالة لإحدى الصحف، "من المعيب أن يأتيك خلال مسيرتك أكثر من 50 الف شخص)  
 ولا تنمي مهاراتك؛ فقد مرت الأيام بحلوها ومرها، وعشناها مع الناس بأفراحهم وأتراحهم،  وما في ذلك غرابة إذ إن الحلاق بطبيعته وظروفه لا بد أن يكون اجتماعياً؛  فالجالس أمامه ليقص شعره لساعة أو أكثر لن يبقى صامتاً، وهكذا يبدأ الكوافير بالاعتياد على سماع الناس والإنصات لمشاكلهم وهمومهم.
ويرى شقير أنه من  الصعب غياب الدور الاجتماعي (للكوافير)، إلا أنه في انحسار ملحوظ حيث إننا نعيش في زمن يبدو الناس فيه يتراكضون في سباقات طويلة، خاصة في مناطق عمان الغربية، حيث يجلس الزبون ومعه (أيباد، آيفون، وفي أحسن الظروف هاتف ذكي) مشبوك بسماعات على أذنيه)، وهنا يبدأ الدور الاجتماعي في الانحسار، حيث الزبون يسمع فقط صوت الموجات المنبعثة من جهازه الذكي، بينما الحلاق يترنم على قرع مقصه.
الكاتب: 
حمزة العكايلة
© 2024 تطوير وتصميم شركة الشعاع الأزرق لحلول البرمجيات. جميع الحقوق محفوظة