طقوس الولادة عند الأرادنة
قرية حوارة في أواسط القرن العشرين نموذجاً                 
  مقدمة
بقدر عمق جذور الطقوس الإنسانية المشتركة المصاحبة لحدث "الولادة"  عبر التاريخ، واتساعها في الجغرافيا، إلا أن تفاصيل طقوس الاحتفال بقدوم المولود الجديد تتنوع متحولة إلى أشكال متبدلة مع مرور الزمن، وتتلون بالموروث الذي ترتكز عليه أعراف وتقاليد كل منطقة بل إن هذا التنوع يتبدى في القرية الواحدة، ويختلف باختلاف العائلات وأصولها، وباختلاف المستوى الاجتماعي والاقتصادي للأسر.
هذه الورقة ترتكز على خبرة الكاتب الشخصية والبيئة الريفية التي نشأ فيها.. متخذا من عادات وتقاليد أهالي قريته حوارة شمال الأردن في أواسط القرن العشرين مصدرا لرصد هذه الطقوس.
ولد ولا بنت
أبرز ظاهرة يمكن التقاطها عند استرجاع هذه الطقوس من ذلك الزمن هو التمييز الفاحش بين الذكر والأنثى!
نعم، حتى الطقوس تميز بين البنت والولد !
فالطقوس الاحتفالية التي تصاحب الولادة عندنا تتباين في بعض جوانبها حتى بين عائلة وأخرى، لكنها جميعها تجعل من هذا الحدث فرصة للتعبير عن الفرح والزهو خاصة بل حصرياً إذا كان المولود ذكرا.
فقط يتساوى الذكر والأنثى وهما في رحم الغيب، إذ تبدأ الاستعدادات لاستقبال المولود الجديد منذ فترة (الوحام)..
الوحام
من منا لا يعرف وحمة على جلدة، أو رآها موسومة على شكل تفاحة أو قطعة كبد أو ورقة دوالي على جلد واحد من معارفه!
طقوس (الوحام) الراسخة عندنا تتمثل بالاستجابة لطلبات المرأة الحامل مهما كانت غريبة أو صعبة المنال خوفاً أو تحسباً من ظهور تلك الرغبة المقموعة "الوحمة" على جلد المولود القادم!
ربما طقس "الوحام" هو الطقس الوحيد الذي يتيح للمرأة الدلال وتحقيق الرغبات. كما أنه يكشف عن الحرمان الذي تعانيه المرأة، وقد حفلت القصص الشعبية بحكايات محورها أو عقدتها تنطلق من "الوحمة".
عمتي علياء توحمت على فجلة. فقطع عمي سليم مسافة طويلة ماشيا إلى الأغوار ليجلب فجلاً.. (ربما هي الرغبة الوحيدة التي حققها لها عمي سليم) لكن الدار مليئة بالأفواه التي ترغب بالفجل، فما كان من عمتي علياء إلا أن راحت تبحث عن مخبئ آمن لإخفاء كنزها لتختلي برغبتها بعد أن يهجع الناس. فخبأتها في كوارة الملح. طبعا الملح امتص طراوة الفجل وفجع الوحماء بجفافه أليافا غير مستساغة. تلك الفجلة ظهرت على بطن ابنها علي وهو من جيلي. وصار قصة تتفكه بها العائلة! 
طقوس الحمل
لا تعفى الحامل من أعباء العمل اليومي المعتاد، ومن غير المستحب للحامل النوم وقت الغروب، كما لا يستحب للحامل ان تدلق الماء على الأرض بعد المغرب. وإذا مات زوجها أثناء فترة الحمل فإنها تمر من تحت النعش حين يحمله الرجال إلى مثواه، حتى لا يرتاب الناس من حملها بعد وفاة زوجها.
قبل وقت المخاض بمدة قصيرة، حيث تبدأ العائلة ومحيطها في إنجاز الأشغال الضرورية، كترميم البيت وتبييضه وتنظيفه استعداداً للمناسبة، وتهتم الأم بنسج طاقية الطفل واللكاليك أي الجرابات من خيطان الصوف الناعم تنسجها على الصنارة. وتقوم بتجهيز ملابس المولود الجديد والحفاظات والقماط. وتنخيل الحرث (تراب الحقل النقي) وترش به حفاظات الطفل. ويدهن به جسده في اليوم السابع. .   كما تحضر أو يحضر لها العسل والسمسم والسمن، ومن المهم تحضير (القرفة) لأنه المشروب الأساسي للنفساء. 
ولما تشعر الأم بقرب المخاض يتم إخطار المولدة "القابلة" – حتى لا تغادر القرية - التي ستتكفل بمستلزمات عملية الولادة، كالشفرة والكحل ومسبحة اليسر..
أما الأب فعليه شراء مستلزمات المولود الجديد كالسرير إذا كان المولود بكرا.. والسرير في تلك الفترة كان خشبيا يستند إلى قائمتين مقوستين ليسهل هزه بقدم الأم فيما يديها مشغولتين بالعمل..
ويجهز الأب العقيقة، أي الخروف أو الجدي الذي يذبح بعد أسبوع من الولادة، ويحتاط الأب مالياً لشراء الحلويات فور بشارته بالولد.. أما إذا بشر بالأنثى فيبقى وجهه مسودا وهو كظيم.
طقوس الولادة
بمجرد شعور المرأة الحامل بالمخاض، يُرْسل في طلب القابلة التي تكون أمهر نساء القرية الخبيرات في التوليد، إذ تبدأ، وبطرق متوارثة عن أسلافها، في مساعدة المرأة الحامل على الوضع، وقطع السرة وربطها ورشها بمسحوق الكحل. ثم تقوم بغسل الوليد ولفّه.
أما إذا تعسرت الولادة؛ فيُرسل إلى الزوج مرسال يطلب منه  أن يخلع ثوبه ويرتديه بالمقلوب حتى تتيسر الولادة، وتقوم القابلة بتمرير مسبحة اليسر حول جسم المرأة مع قراءة سورة الفلق خمس مرات.  مسبحة اليسر 99 حبة.. يوسع خيطها الناظم حسب مقاس المرأة وتمرر من رأسها وكتفيها إلى خصرها.. واليسر مرجان بحري اسود نادر يستخرج من البحر الأحمر وتصنع منه حبات مسبحة اليسر.. سالت أمي لماذا مسبحة اليسر فقالت اسمه معه يسر، وقال أبي أن نبينا صلى الله عليه وسلم سبح باليسر، والله أعلم.
السباعي والمبدل!
إذا ولد الطفل خداجا فإنهم يسمونه سباعيا. أما إذا ولد مشوها أو منغوليا أو به عاهة  فإنهم يقولون (مبدّل) إذ يعتقدون أن الذين تحت الأرض بدلوه، وعليهم إعادة الولد السليم لأهله، وفي هذه الحالات يلجؤون إلى خيار عجيب. تأخذ القابلة المولود وتضعه بين القبور تحت جونية من القش، مع إشعال "الشبة والحرمل" على عيدان الدفلى بجانبه، وتتركه ليلة بكاملها، وفي الصباح تتفقده، فان كان حيا أعادته إلى أمه واستكملت الطقوس. وإن مات فمشيئة الله. وقد عرفت رجلا من أقاربي (سباعي) نجا من هذه التجربة وصار جداً. كما سمعت عن مواليد أكلتهم السباع قبل أن يطلع الصباح! 
إعلان الولادة
إذا ما مرت الولادة بسلام، وكان المولود ذكرا، فإن النساء يطلقن الزغاريد، وهي الإشارة التي تعلن للزوج الذي عادة ما يكون بعيدا عن البيت عند ولادة زوجته، إذ لا يليق بالرجل أن يكون بالدار المكتظة بالنساء، فيكون في الحقل أو في الدكان، وهنا نشير إلى أن دكان القرية كانت أشبه بمضافة نهارية يتجمع على دكتها أو عند بابها الرجال أوقات راحتهم.
وقد سمعت من بعض النسوة في حوارة أن زغرودة واحدة تعني أن المرأة وضعت بنتا أما إذا وضعت ولدا فثلاث زغاريد !.. إلا أنه من خبرتي الشخصية لم أسمع أي زغرودة تطلق لميلاد بنت.
إنهم في قريتنا كانوا يكتفون بالقول عابسين: الحمد الله ع سلامة أم العيال!.. بل إن جدي لأمي وزع الحلوى لأن بنتا له ماتت أثناء الولادة. وقد ظلت أمي تروي هذه الحادثة بمرارة حتى توفت إلى رحمة الله!
أما إذا كان المولود ذكراً. فكانت تعج الحارة بالزغاريد.. ثم يقوم جد الغلام أو عمه بإطلاق النار في الهواء.. ويتسابق الأولاد إلى والد المولود للحصول على البشارة نقودا أو حلوى.. بعدها يجتمع أقارب المولود الجديد في المضافة للمباركة.. 
النفساء
بعد الاطمئنان على صحة الأم النفساء يقدم لها (للولاّدة) العسل والسمسم، ثم يرتفع ضجيج الدجاج فيذبح ديك وتتكلف بعض نساء العائلة بطهيه ويقدم مرقه للنفساء لتشربه كمقوي يساعدها على استرداد عافيتها، فيما تقوم القابلة بتنظيف الوليد وغسله سبع مرات واحدة منها بالحرث – أي تراب الحقل! وقد وجدت امتيازا وحيدا للمولودة الأنثى إذ تكحل ويرسم حاجبيها بالكحل ويعلقون على قماطها قطعة "شبة" ليأتي المولود الذي  بعدها ذكرا ( شبه شب شاب)!.
الزيارة
تتقاطر النسوة لمباركة المولود الجديد والاطمئنان على صحة الأم، إذ يحملن في الغالب بعض الهدايا التي هي عبارة عن بيض أو حبوب. أما أمها فتحضر صبوحا لابنتها صينية دجاج، وقريباتها  يخبزن لها نوع خاص من الفطائر يسمى "المردد"، أو يحضرن العجة بالبيض والجعدة..
وتقدم للزائرات مشروب القرفة والزنجبيل والزبيب..  بينما يكون الزوج وصحبه من الرجال في غرفة أخرى أو في مضافة العشيرة يتسامرون حول "صينية الزبيب والبطم" ويبذل للأطفال "المخشرم وحلو الذواب".. في عائلات أخرى سمعت أن القرفة والزنجبيل تقدم للرجال والنساء.
 
السبوع
ويشهد اليوم السابع، وهو يوم العقيقة، حركة زائدة في منزل العائلة، حيث تقوم النسوة في الصباح الباكر بمساعدة المرأة النفساء على الاغتسال، و يستعملن بعض الأعشاب مثل الخزامة أو الشيح والقيصوم مع ماء الغسل وبعده يتم تبخيرها بحرق عيدان الدفلى. ثم ترتدي ملابس جديدة تليق بالمناسبة وتتزين.
أما المولود فيغسل بالماء المملح  (كانوا يعتقدون أن تمليح الصبي يطيل العمر ويجعله رجلا شديدا) ثم يكحل الطفل ويجري تسليمه إلى جده أو أبيه أو شيخ الجامع، الذي يؤذن للمولود الجديد في أذنه اليمنى، ثم يكبر ثلاث تكبيرات في أذنه اليسرى. وإذا كانت المولودة أنثى فيختلي بها أبوها ليؤذن ويكبر في إذنها بلا طقوس!.. وقد يسمح للأم باختيار اسم ابنتها.
لا يختلف أفراد العائلة في اختيار الاسم المخصص للمولودة، وإذا كانت المولودة قد جاءت بعد أخوات لها تسمى كفاية أو ختام أو رابعة (لي ابنة عم كانت رابعة بعد ثلاثة أولاد كي يوهموا الغيب بانها رابعة وكفى)  أما الذكر فغالبا ما يحسم الأمر في اختيار اسم أحد أصوله.
تذبح العقيقة عادة عند العصر وغالبا ما يذبح كبش خاصة إذا كان المولود ذكرا. ويدعى شيخ الجامع وعدد من رجال القرية للعشاء ويقومون  بعد تناول الطعام أو قبله بتلاوة بعض السور من الذكر الحكيم والدعاء للمولود الجديد ولأفراد العائلة.

 

الأربعين
لا يغادر المولود الجديد بيت أمه، قبل أن يستكمل الأربعين يوما من عمره، وفي اليوم الأربعين عادة يحلق رأس المولود، أو ما يعرف بـ"الزيانة".. وتصاحب هذه العملية طقوس وعادات، منها أن من يقوم بها هو جد الوليد من جهة الأم في المرتبة الأولى أو جده من جهة الأب في حالة غياب الأول أو شيخ الجامع.
وقبل أن تجري عملية حلق رأس المولود، يقوم  الشخص المكلف بهذه المهمة بحلق الشعر من الأطراف بطريقة دائرية مع ترك "القنة" (قنة الرأس) للحناء، ويعمد إلى دهن المناطق التي مرر فيها موس الحلاقة بالحليب المستخرج من ثدي أمه بدل الماء حتى لا يلتصق بها الحناء.
كما توضع في مقدمة رأس الوليد تميمة غالبا ما تكون عبارة عن كف من ذهب أو فضة لطرد الأرواح الشريرة وحمايته من العين. وتسمى "الخميسة أو "الكف"..
وتعرف أيضاً باسم بـ "يد فاطمة " إشارة إلى فاطمة (الزهراء)وعند المسيحيين "يد مريم"إشارة إلى مريم العذراء عليهما السلام.. تمنع الأذى عن جسم الإنسان أو ما يخصه إذا ما دُفعت في وجه الحسود· وتدفع الأم كفها (بعد فرد الأصابع الخمسة) في وجه من تظن أنه يضمر الحسد لها أو لوليدها وتنطق بالعدد "خمسة" أو تذكر  كلمات مرتبطة برقم خمسة إذا أرادت التورية وعدم إشعار زائرتها بالريبة! كأن تقول (اليوم الخميس)، أو (اشتريت بخمسة قروش كذا) أو (قبل خمسة شهور صار كذا)..
خلال الأربعين يوما  بعد الولادة لا تخرج الأم بمولودها من البيت. ويمنع منعا باتاً أن يتخطى جسد  المولود أحد (يفشق عنه)، لذا فانه عادة ما يوضع سريره أو مكان رعايته في ركن البيت.
في كل قرية مزار مقدس وفي حوارة كان (مزار الخضر) يكسى بقماش اخضر ويوقد فيه سراج وقوده زيت الزيتون، وتزوره المرأة وابنها في اليوم الأربعين بعد الولادة؛ في أول خروج للمولود من البيت.
مساء الأربعين يوقد البخور في أطراف البيت، ويقرأ شيخ الجامع كتيب المولد النبوي الشريف على صاع من الشعير المملح، وصينية حلوى. وغالبا ما كان يقرأ (مولد العروس) لابن جوزي الذي لازمته:
صلوا عليه وسلموا تسليما
الله زاد محمدا تعظيما
تقوم النسوة بأخذ شيء من شعر المولود وخلطه ببعض الشعير المقري (أي الذي قُرئ عليه المولد ويجمع في قطعة من القماش، تكون بيضاء اللون، يجري ربطها إلى عنق الطفل، او تعلق بمشكالٍ على قماطه لتظل ملازمة له حتى ينبت أول أسنانه، باعتبارها تمنع عنه أذى الإنس والجن..
ويدخل بعد ذلك في مرحلة جديدة من عمره تصاحبها بدورها عادات وطقوس أخرى من الموروث الشعبي في قريتنا. 

الكاتب: 
هاشم غرايبة
© 2024 تطوير وتصميم شركة الشعاع الأزرق لحلول البرمجيات. جميع الحقوق محفوظة