ملحمة "ممي آلان* " الفولكلوريّة الكردية

 

 

  قراءة تحليلية

* يوسف يوسف
 

تعدّ ملحمة ( ممي آلان ) واحدة من بين أهم النصوص الفولكلوريّة الشفاهيّة التي أنجزها الكرد خلال تاريخهم الطويل . وغالبا ما يشير إليها المهتمون بتراثهم باعتبارها علامة مهمّة  من علامات صنيعهم الإبداعي ، الذي ظلوا يتناقلونه ويحافظون عليه، على اعتبار أنهم بقيامهم بذلك يحاولون المحافظة على هويّتهم ووجودهم كعرق له خصائصه ومقوّماته التي تختلف عما عند جيرانهم، لقد بقي الرواة الكرد، والمغنون الشعبيّون منهم على وجه الخصوص، يتناقلون هذه الملحمة الفولكلوريّة جيلاً عن جيل ، وفي مختلف الأماكن التي يوجدون فيها، صحيح أنّه قد تكون هناك اختلافات في التفاصيل الدّقيقة والثانويّة بين هذه النسخة وتلك مما يتناقلها الرواة الذين تختلف لهجاتهم (الكرمانجيّة والسورانيّة والبهدينانيّة وسواها) ، إلا أنّ الهيكل الأساسي للملحمة – الحكايّة الشعبيّة بقي هو نفسه لم يصبه أيّ تغيير، في مختلف أجزاء كردستان،ولعلّه من المفيد الإشارة إلى أنّ الملحمة التي تحمل عنوان ( مم وزين ) التي كتبها الشاعر الكردي الشهير أحمدي خاني (1650 -1707 )، تعدّ الوجه الآخر للملحمة – الحكايّة الأصليّة التي يصحّ القول عنها بأنّها الركيزة الأساسيّة التي استند خاني إليها في إنجاز ملحمته الشعريّة الشهيرة هي الأخرى .

تتوزع أحداث هذه الملحمة – الحكاية بين مكانين : الأوّل منهما يتمثّل بمدينة المغرب ، حيث يعيش الملك الكرديّ الشاب(مم) إلى جانب والديه وعمّيه عمر بك وألماز بك، بينما يتحدّد المكان الثاني بجزيرة بوتان ، الواقعة في مكان ما من بلاد كردستان ، وحيث تعيش الأميرة( زين ) ، التي تتمثّل للملك في أحد أحلامه، فما أن يطلع الصباح ويصحو من نومه ، حتّى نراه يأمر أتباعه بتجهيز حصانه الأشهب للرحيل والبحث عن زين الزينات للزواج منها. ولأنّ الحكاّة لا تعطي الكثير من التفاصيل حول مدينة المغرب ومكانها ، فإننا نميل إلى الاعتقاد بأنها مما جاء به المخيال إلى النصّ فحملت هذا الاسم ، الذي قد لا يكون هو نفسه المكان المعروف به في أيامنا . ومما تخبرنا به الحكايّة من أحوال المدينة أنّها "عظيمة وكبيرة وتقوم على سبعة جبال ولها 366 بابا ، ولكلّ باب 366 ولاية، ولكلّ حارة 366 مسجدًا ، ولكل مسجد 3 منارات رفيعة ". وأما جزيرة بوتان التي يحكمها الأمير ( أزين ) الذي هو أخ الأميرة ( زين الزينات) ، فإنّها مكان واقعي معروف ، وهي التي تسمى عند الجغرافيين العرب باسم جزيرة ابن عمر ، الواقعة عند ضفة نهر دجلة ، عند ملتقى حدود كل من العراق وتركيا وسوريا، وتصف الحكايّة الجزيرة على هذا النحو:

            " حارة لشيخ التجار، وحارة للأشقياء والعاطلين، وحارة للأخوة الثلاثة : حسن ، جكو ، وقرة تاجدين، وتبتعد مدينة المغرب عن جزيرة بوتان مسافة سنة وستة أشهر "

ما سبق يشير إلى أن ( مم ) ملك المغرب الذي أحد نصفيه من الكرد ونصفه الآخر من العرب( الوالد كردي والأم من القرشيين)، وبعد أن جاءت إليه الأميرة( زين) في المنام وأمضت معه ليلة كاملة ، ركب حصانه الأشهب ورحل قاطعًا المسافات للبحث عن الأميرة الكرديّة. وباستثناء القليل جدًّا من الأحداث التي تجري في مدينة المغرب وفي طريق السفر، فإنّ الغالبيّة منها تقع في الجزيرة . وإذا ما افترضنا، وهذا هو الأقرب للصواب، بأنّ ثمانين في المائة من الأحداث قد وقعت في تلك الجزيرة، فإنّ النسبة المتبقيّة، وهي عشرون في المائة، سوف تتوزع بين المدينة وطريق السفر. لقد اتخذ (مم) قرار الرّحيل والبحث عن (زين) بمفرده ، ودون أن يستشير أيًّا من والديه والمقرّبين منه . بل إنه وكما سنلاحظ ، لم يعر أيَّ انتباه لتوسّلات أبيه وأعمامه في أن لا يسافر، وأن يبقى حيث هو بينهم في مدينة المغرب، فيأتون إليه بأجمل فتاة في المدينة ليتزوجها. إنّه الرّجل القويّ ، أو هكذا تقول لنا الحكاية، الذي في يده الأمر والنهي في المملكة. وهكذا فإنّ رحيل (مم) الذي هو انتقال من مكان إلى آخر ، ومن مجتمع اعتاد العيش في وسطه ( المجتمع العربي) إلى آخر سواه( المجتمع الكردي) لا معارف له فيه قبل الوصول إليه ، وله منظومته الاجتماعيّة والسياسيّة المختلفة ،  سيمنح المتلقي الفرصة للالتقاء بشخصيات من جزيرة بوتان سوف يتمكّن من خلالها من اكتشاف واقع الكرد ونمط حياتهم، وهو أمر عظيم الشأن ، على كلّ حكايّة من الحكايات الشعبيّة أن تبوح به .

ما سبق وسواه الكثير مما يرتبط ببنية الملحمة/ الحكايّة الفولكلوريّة وبما في متنها ، يدفعنا إلى القول بأنّها تحتمّ على المهتمّين بالسرديّات وشؤونها وأجناسها، وبالذات القديمة منها وفي مقدمتها الملاحم والأساطير ومختلف المرويات الشعبيّة ، الانتباه إلى مسألتين متلازمتين ومتداخلتين لا تنفصل إحداهما عن الأخرى: الأولى ترتبط بضرورة الكشف عن قيمة سرديات الكرد ومروياتهم  ، والثانية تذهب باتجاه البحث عن هذه السرديّات والمرويّات التي نظنّ أنّها تعرضت ، مثل ما تعرضت إليه مرويّات وسرديّات أقوام أخرى كالهنود الحمر والفلسطينيين ، للكثير من محاولات السحق والتغييب ونفي الوجود، وذلك بهدف إخراجها بالتّالي من منطقة الظّلال المرعبة.       

ولأنّ الملاحم على هذا القدر من الأهميّة، فإنّ النظرة الجادّة إلى (ممي آلان) يجب أن تتّصف بقدرة صاحبها على التشريح الدقيق، مرّة بهدف الكشف عما بين سطورها لمعرفة ما يمكن معرفته من واقع الكرد، وأخلاقهم وعاداتهم ومعتقداتهم وعقليتهم وبنيتهم الذهنيّة وعناصر بنيتهم الاجتماعيّة التي نعتقد بأنها تمتلك من الخصائص والصفات ما يجعل الكرد يختلفون عن غيرهم من الأقوام ، وأخرى بهدف الكشف عن القيم الجماليّة في هذه الملحمة الفولكلوريّة ، وهي قيمتها الكبرى التي نعتقد بأنّها بسببها بقيت على قيد الحياة، ولم تمت أو تحتجب على رغم ما تعرضت له عبر تاريخها الطويل ، آخذين بنظر الاعتبار هنا، أنّها أقدم ملحمة كرديّة تصل إلينا، وهو ما يذهب إليه الدكتور عزالدين مصطفى رسول في المقدمة  التي كتبها ، حيث يشير إلى أنّها ظهرت قبل ميلاد  المسيح .              

     الملحمة – الحكايّة وشكل الخطاب

تندرج(ممي  آلان) في سياق الملاحم التي أنجزها العقل البشري ، حّتى وإن اتصفت على مستوى الأسلوب بطابعها الفولكلوريّ. ومن أجل أن نفهم أسلوبها في القصّ، ونتبيّن أسباب المقاربة بينها وبين الفولكلور، الذي هو جنس آخر من فنون التعبير، نرى وجوب التوقّف أمام إطارها العام وتوضيح الأمر.

تروي ملحمة(ممي آلان) كما سبق القول حكايّة الملك الكردي الشاب : ممي آلان ، والأميرة الكرديّة الشابة : زين الزينات، التي تظهر له في المنام ، وتمضي معه في حلمه، ليلة كاملة إلى طلوع الصباح. لذا وقبل أن يتحقّق اللقاء الفعليّ في الواقع بينهما وينتصران ، فإنّ الملحمة تضع المتلقّي أمام حالة من الشدّ والترقّب ترتفع وتيرتها مع الأيّام. وتصاحب عمليّة الشدّ هذه، مختلف أنواع الصعوبات التي يضعها السارد أمام البطل الشاب، خلال رحلته من مدينة المغرب إلى جزيرة بوتان ، فوق حصانه الأشهب الذي يقطع المسافات بسرعة هائلة لا نرى عند بقيّة الخيول ما يماثلها.

صحيح أنّ شكل الرّحلة يبدو أقرب إلى المعالجة الفانطازيّة منه إلى المعالجة الواقعيّة ، إلا أنّ هذا النمط من المعالجة هو الذي جعل المسافة بين النصّ والملحمة قصيرة إلى أبعد الحدود، وهو أيضًا ما جعله قريبًا من الفولكلور، الذي تغلب على معالجاته الصفة الفانطازيّة في حركة البطل.

في هذه الملحمة - الحكاية نرى البطل (ممي آلان) فوق حصانه الأشهب الذي يسابق الزمن بسرعته الفائقة التي نرى ما يماثلها في خيول الحكايات الشعبيّة وحدها ، وإن لم تفارق السارد الرغبة في تصوير الواقع الذي يتحرّك البطل فيه، بدقّة متناهية تمامًا. ربما يتصوّر القارئ أنّ مثل هذا التّوضيح غايته الاكتفاء باختصار الثيمة الأساسيّة ، إلا أنّ الأمر ليس كذلك بتاتًا، فما يلفت الانتباه، ويدعو للتمعّن في الملحمة، تتنوع مصادره ، وليست رحلة (ممي آلان) غير أحد الوجوه التعبيريّة ، وليست كلّ شئ . والملحمة في الوقت الذي تحتفظ فيه بطابع التراجيديا الذي هو طابع الملاحم غالبًا، لا تخفي انشعال السارد بالمكان، الذي يحاول تأثيثه بكلّ ما يظهر هويّته. ولأنّ التراجيديا من حيث الاهتمام لا تبتعد عن دائرة الإنسان وتضحياته، فإنّ الأحداث التي تمّر من أمام عيوننا، على الرغم من طابع المعالجة الفانطازي ، تظلّ واقعيّة تمامًا، ولا تأثير لمخيال السارد فيها، سوى القيام بترتيبها على وفق ما تمليه الضرورات الفنيّة التي ترتبط بالصراع ونموّه وتطوّره. أي أنّ الملحمة بسبب صنعتها الراقية، استطاعت إيهامنا بواقعيّة أحداثها جميعها وبلا استثناء، حتّى وإن كان بعضها غير ذلك. كما أنّها استطاعت إقناعنا بحقيقة وجود كل من(ممي آلان) وحبيبته(زين الزينات) وسواهما من الشخصيات، فبدت وكأنها لصيقة بالتّاريخ الكرديّ. وحتّى لو افترضنا بأنّهما وغيرهما من الشخصيّات من إنتاج عقل السّارد ومخياله ، فإنّ هذا السّارد بسبب قدرته على تحقيق الإيهام ، استطاع أن يقدّم لنا مرحلة من حياة الكرد، امتازوا فيها بالحيويّة والنشاط وبالوجود القومي المؤثّر، في مستويات الحياة المتعددة.

ربّما لم تكن الملحمة- الحكاّة الفولكلوريّة بهذا الطول والامتداد عند بدء رحلتها مع الحياة وظهورها ، إلا أنّنا نميل إلى الاعتقاد بأنّ العقل الكرديّ الذي أنجز معمارها في شكله الأول الذي لا نعرف شيئًا عنه، بقي يضيف إليها ويحذف ، ويجري التعديلات عليها والتحسينات، خصوصًا عندما كان الرواة والمغنون يقومون  بتقديمها في السهرات والمناسبات ، بما في ذلك العمل على أسلمتها بعدما دخل الكرد في الاسلام. وإذا كان هذا الأمر يكشف في جانب منه عن تطور في البنيّة الذهنيّة الكرديّة، وعدم المراوحة في دائرة التعبير ذاتها، فإنّه في الجانب الآخر منه باعتباره ضربًا من السلوك البشري، يدلّ على أنّ الكرديّ لم يتنازل عن هويّته، وقد بقي من خلال هذه الملحمة وسواها مما كان يسرده، يتشبّث بهذه الهويّة عبر الأزمنة، اعتبارًا من ذلك التاريخ الذي سبق ميلاد المسيح. ونستدلّ إلى صحّة هذا القول، من خلال محافظة الملحمة الفولكلوريّة على روحها، ونكهتها ، اللتين تشعّان من المكان والشخصيات معًا. وإذا ما أخذنا بالرأي الذي يدعو إلى ضرورة التعامل مع المفردات باعتبارها مرجعيات تلقي بظلالها على أيّ نصّ تستخدم فيه، وأنّ مفردة (ممي) هي اختصار لمفردة(محمد) العربية، فإنّ الملحمة حتّى بعد أن تمّت عمليّة أسلمتها لم تغادر البيئة التي نشأت وظهرت فيها، وهي البيئة الكردية، وبحسب ما توصلنا إليه مفردة (ممي) التي ربّما لم تكن قد ظهرت إلى الوجود في اللغة الكرديّة آنذاك. ولعلّ الملحمة لهذا السّبب أيضًا، أصبحت المرجعيّة التي استفاد منها الشاعر الكردي المعروف أحمدي خاني(1650 -1707 ) في مطولته الشعريّة الشهيرة (ممي وزين) التي سبقت الإشارة إليها في بداية هذه المقالة.

والملحمة كما هو مكتوب على غلاف الطبعة التي نتناولها في هذه المقالة: فولكلوريّة. وهذه مفردة تحمل أحد تفسيرين، أو كليهما معًا. فهي إمّا أن تكون مرتبطة بحالة سرد الملحمة أمام جمهور غفير من الناس في ساحة عامة ، أوهي قد تكون مرتبطة بالمعمار، الذي يتشابه مع ما نراه في الحكاية الشعبيّة أو بغيرها من أجناس التّعبير الشعبيّ. وسوف يدرك القارئ أنّه ليس هناك أيّ تضادّ بين التفسيرين، إذ إنّ أحدهما يرتبط بالآخر، والاثنان يشيران إلى طريقة القصّ أولاً وقبل أيّ أمر آخر.

تذكرنا هذه الطريقة بأسلوب الحكاية الشعبية، وإن كانت تختلف عنها اختلافًا كبيرًا لا يبيح لنا المقارنة بينهما. وقد يبدو البناء اللغوي على غرار ما نراه في الحكايّة الشعبيّة، بسيطًا وقريبًا من الشائع على الألسنة، إلا أنّ هذا لا يبرّر الوقوع في مصيدة التفسير الخاطئ لمثل هذه البنية، وإلا فإنّ الكثير مما فيها يجعلها أقرب إلى تلك الأبنية اللغويّة التي تمتاز بالفخامة في أشهر التراجيديّات العالميّة ، أو في سواها من أمّهات النّصوص المسرحيّة والروائيّة، ومن ذلك القول:

      (1 ) دخلت الفتيات الثلاث مدينة جزيرة بوتان ، وصرْن في دائرة (زين) وعلى أفواه النوافذ، ونظرْن فإذا ب(زين) مستلقيّة في الفراش وعند رجليها وفوق رأسها تشتعل المشاعل والسرج.

      (2 ) وعندما وقعت عين (مم) على ذلك المنزل والدار، وكان شبيها بمقام أمه وأبيه، تذكر الأمّ العجوز والأبّ الشّيخ والعمّين الأجليّن الذين ظلوا يائسين من عودته، فانحنى على سرج الأشهب العدّاء، وانهمرت الدّموع من عينيه مدرارًا مخضّبة الرخام، نادى التاجر الشيخ مم وقال له: أيّها الفتى الحبيب خيرًا. ما البكاء إلا شيمة النساء/ يا فتاي / هام الرجال.. كقمم الجبال الشمّ .. دائم الضباب/ والدخان/ وجبهة عريضة من معدن الذهب

وتقول الملحمة في وصف (زين): "نثرت ضفائرها وحواجبها على رمانة الوجه/ وأرسلت الظفائر والعذار على الغدائر/ فارتمت في السرير فوق الرسالة/ كأنّهم قد صاغوا زينة وحلى/ انسابت على الصدر كنقوش في أبر".

وهناك مسألتان يجب الانتباه إليهما عند أيّ حديث حول جماليّات هذا النص: الأولى ترتبط بالتجنيس، والثانية بالموافقة على اعتباره نصًّا فولكلوريًّا. فأمّا من حيث وضعه في جنس الملحمة، فذلك لأنّه يتّصف بالطول والتاريخيّة والبطولة والأفعال الخارقة والمعارك الضخمة، وغير ذلك مما تنتظم فيه الملاحم عادة، ولعلّ المقطع التالي يوضح ما نذهب إليه: "انهال مم بالرّماح والنبال والعصيّ على جنود الأمير/ وخرّب الصف الأوّل وسار إلى الميمنة ثم دخل المعمعة/ وقذف الفرسان من على الخيول وداس المشاة تحت حوافر/ الفيلة/ أخذ احمال الضرائب من العدو وساقها أمامه/  تقرّب من الشاه وأسر الرخّ والملك"

ذلك أنّ السّارد في مثل هذه الصياغة استعار من الحرب التي هي روح الملحمة أهمّ مفرداتها( الرماح، النبال، العصي، الجنود، الميمنة، المعمعة، الفرسان، الخيول، المشاة، وغيرها كثير) لوصف مجرى لعبة الشطرنج بين (ممي آلان) وأمير بوتان(أزين) الذي هو شقيق (زين الزينات) التي أتى ملك المغرب من أجل الحصول عليها. وفي اعتقادنا أنّ مثل هذا الوصف، حتّى وإن كان بهدف الإشارة إلى مجريات لعبة الشطرنح بين (ممي) و(أزين)، فإنّه يرتقي بمعارك (ممي آلان) التي يخوضها ويبلي فيها، خصوصًا وأن موافقة الشّقيق (أزين) على تزويج أخته من (ممي آلان) أصبحت ترتبط بنتيجة اللعبة التّي يسعى كلّ واحد منهما للفوز فيها والانتصار على الآخر.

ذلك بخصوص أسباب التجنيس، وأمّا بالنسبة لاعتبارها ملحمة فولكلوريّة، فذلك لأنّها في طريقة القصّ المستخدمة فيها، وفي أغلب ثيماتها ، تحاكي وجدان الشعب، وهو ممّا دعا المغنين الكرد إلى أن يغنوها خلال الأعياد والاحتفالات، ويضاف إلى هذا ما سبقت الاشارة إليه من اقترابها من روح الحكاية الشعبيّة ، بما في ذلك طريقة ترتيب الموتيفات، والصعوبات التي تعترض البطل قبل أن يستطيع التغلّب عليها.

المتن ومنظومة الكرد الاجتماعيّة

عند التوقّف أمام ما في متن الحكايّة السّرديّ ، فإنّنا نرى بأنّها تقدّم إجابات شافيّة عن كثير من الأسئلة التي تحاول تصوير الكرد كأنّهم مجموعات رعويّة متناثرة ، لا يربطها ناظم اجتماعيّ أكبر من التجوال بحثًا عن الكلأ والماء، أو العيش بين المجتمعات كأقليّات جاهلة لا دور لها.

والملحمة في إجاباتها غير المباشرة عن هذه الأسئلة، إنّما تفعل ذلك من خلال محاورة عقل القارئ ، الذي من خلال تمحيصه في المتن ، سيكون في مقدوره اكتشاف الكثير مما يرتبط بحياة الكرد ووجودهم بدون وسيط ، غير الكلمات التي يتكوّن نسيج السّرد منها. ولأننا على يقين بأنّ الإنسان لا يقول إلا ما يفكّر به، فإنّ سارد الملحمة في صورتها التي بين أيدينا، لا يمكن إلا أن يكون ساردًا كرديا، بدلالات عديدة ليس من الصعب على القارئ اكتشافها. قد يتصور البعض أن عمليّة ترحيل من نوع ما قد حدثت، وأنّ الملحمة قد جاءت من منشأ آخر قبل استقرارها في وسط الكرد، إلا أنّ مثل هذا الافتراض يقابله افتراض يخالفه، تعدّ الملحمة فيه كرديّة الولادة والنشأة، بل وصافية بدون أيّ تأثيرات خارجيّة من أيّ من الأقوام القريبة من الكرد، أو التي يعيشون في وسطها كأقليات كما يزعم المناوئون لهم. إنّ مثل  ذلك الافتراض الذي يقصي الملحمة عن بيئتها الأصليّة لا قيمة له؛ لأنّ الملحمة في شكلها الحالي كرديّة تمامًا، بدليل مناخها، وشخصياتها، والمكان الذي تدور فيه أحداثها، وكذلك المنظومة الاجتماعيّة التي تتحرّك الشّخصيّات فيها، ولا قيمة لأيّ افتراض يشكّك في موطن الملحمة، الذي هو موطن الكرد:

"ذاع خبر رحيل مم في مدينة المغرب/ كانوا يعقدون أكفهم خلفهم حسرة وألما/ تجمهروا جميعا حول مرابط الخراف/ منهم من انهال على يديه ومنهم من ركع تحت ركابه وقدميه/ وكنواحهم على ميت، تعالى نواح الفتيان: واأبتاه ، واأبتاه/ رأى مم أن الأمر سيطول وصعد البكاء والنواح إلى السماء/ همز بالركاب الأشهب العداء مرة ومرّتين فهو رفيق يوم الضيق/ وأرخى له العنان/ ومضى الحصان كأنّه صاعقة تنزل من السماء/ ووراءه لم تكن تلمح الغبار والدخان/ فلا أحد يعلم ما قوّة هذه الدابّة في الدروب/ وعلى هذا المنوال ساروا، حتّى بلغ الليل لحظة صلاة المغرب/ فرأى مم نفسه في مدينة كبيرة عظيمة/ سُرُجها تحاكي نجوم السماء/ رأى مم مناحة عربيّة في منزل عظيم/ سمع بين النائحين صوت أبيه الشيخ وصوت بنكين أخيه بالروح/ آنذاك ظنّ أنّه قد ضلّ الطريق ، وعاد إلى مدينة المغرب/ ورويدا رويدا ابتعد عن مضيف أبيه وأجداده قصر ملك الكرد"

عندما يصاحب السّارد الملك (مم) في خروجه من مدينة المغرب إلى جزيرة بوتان ، فإنّه في المساحة الأكبر من الملحمة يصوّر حياة الكرد المسلمين، وهذا ممّا يوجب علينا إذا توخينا الاحتكام إلى منطق النصّ وما ينطق به ، صرف النظر عن أيّ حديث يشكك بنشأتها . وفي هذا الموقف العقلاني، نكون قد التزمنا بقواعد النقد، التي تطالب الناقد بضرورة النظر إلى النصّ من داخله، وليس على وفق أيّ أمر آخر، طارئ وخارجيّ. ومن اللافت للانتباه، أنّ الكرد وحيثما نراهم في أيّ من أجزاء الملحمة، ليسوا كما تحاول سرديّات الخصوم تصويرهم ، ذلك أنّه منهم الملوك والأمراء والتجار الكبار وأصحاب رؤوس الأموال، بالإضافة إلى الفلاحين والرعاة والصيادين وغيرهم مما يوضح استقرارهم وما يرفلون به من الرقي الاجتماعي ، وإلى هذا الذي نذهب إليه نقرأ وبالتتابع الزمني ما يوضح هذه الحقيقة:

 (1 ) "لقد بلغ عمر مم الخامسة عشرة/ ونصّبوه ملكًا على مدينة المغرب/ وذات يوم كان مم جالسًا على عرشه ذي القوائم الأربع/ مثل شمس أشرقت لتوّها من أعالي الجبل/ وبأمر من أبيه الشيخ وعمّيه الجليلين/ جلس حول غرفته ألف ونصف ألف من شباب الكرد/ وكلّهم من أولاد الأمراء والنبلاء".

(2 ) "هناك اثنان/ أحدهما فتاة والثاني شاب/ لن يبلغ جمالهما أحد، أحدهما ابن ملك المغرب/ إنّه أمير الكرد وملكهم/ والثانيّة أبوها سيّد جزيرة بوتان/ ابنة الأمير زنكين ، زين الزينات".

 (3 ) "سأفتح لك أبواب الدّكاكين والمخازن (يقول أحد التجار الكرد للملك مم دون أن يكون قد عرفه)/ إن لم تفدك سأفتح الخزائن والكنوز ، فخذ ما تشاء من النقود/ عليك إن تدلّ عمّك باصبعك حيث تشاء/ آنذاك سأغرق ذلك المكان بالمال والذهب/ سأزيل عنك هموم القلب، وحتّى الآن هذا ما نعمله بمالنا/ فنحن نجمعه ثم نبذله من أجل الأخيار".

وهكذا فعندما يصوّر السّارد المكان الأول- مدينة المغرب، فإنّه يهتمّ بتصوير الحكّام من الكرد، الذين منهم الملك (ممي آلان):

"نهض الأخوة الثلاثة فأخذوا يمشون/ وتوجّهوا نحو مضائفهم العظيمة/ وفتحوا أبواب الخزائن والدفائن/ ونثروا المال في الأزقّة وأعماق الدّروب / من أجل الفقراء والمساكين/ ونحروا الذبائح والأضاحي".

 في حين أنّه عند تصوير المكان الثاني/ جزيرة بوتان، فإنّه يصوّر لنا منظومة متكاملة في المكان الكرديّ، حيث جميع سكانه وحكامه من الكرد. ربما يكون أراد إبراز دور الكرد في الحياة السياسيّة للمسلمين حتّى عندما يكونون بعيدين عن أرضهم الأصليّة ، إلا أنّه لا يخفي رغبته في تقديم فلسفة للحكم، تتماهى من وجهة نظره مع المفهوم الإسلامي، ونتبيّن هذا الأمر بوضوح في أكثر من موضع في داخل الملحمة/ الحكاية؛ ففي أعقاب الانتقاد الذي يوجّهه لطبقة الحكم، فإنّه يتوسّل بشخصيّة الخضر المعروفة عند المسلمين، ليقول من خلالها ما يراه ضروريًّا في الحاكم العادل"

"واليوم هو عيد الأضاحي، لكنّكم قد هجرتم مضائفكم/ وكان على رجال مثلكم، أن يفتحوا أبواب الخزائن والدفائن العظيمة/ كان عليكم أن تنثروا المال يا معشر الأخوة في الأزقة والدرابين من أجل الفقراء والمساكين، وكان عليكم أن تطعموا نفسًا جائعة، وتكسو جسدًا عاريًا".

في المكان الثاني، الكردي، وحيث تدور أغلب الأحداث، يقوم السارد بوضع كلّ الأشياء فوق منضدة التّشريح، وتحت عدسة مكبرة، فتظهر أمام العيون المنظومة الاجتماعيّة للكرد بكلّ عناصرها ، ابتداء من بنية الحكم، وصولًا إلى مختلف الأبنية في شرائح المجتمع وطبقاته. وهنا سوف يكون في مقدور القارئ معرفة العديد من الشخصيّات وأفعالها، كما أنّ معرفته بالبطل (ممي آلان) سوف تزداد عمقًا، بعد أن يكون الاشعاع المنبعث منه قد ازداد قوة ووهجًا في أعقاب انتصاراته على عشرات المصاعب التي واجهته. ومن مجموع  هذه المعارف التي يضعها السّارد أمامنا، يمكننا القول أننا أمام بنية واضحة المعالم لها قيمها الخاصة وعاداتها وتقاليدها ، وفيها الأخيار الطيّبون وغيرهم الأشرار السيّئون على حد سواء. إنها البنية التي يحاول أعداء الكرد من سراق الأرض  والتاريخ نفي وجودها، أو تشويهها، إن لم يتمكّنوا من تحقيق الهدف الأول. وعمومًا فإنّ معرفتنا بالشخصيّة الكرديّة سوف تكتمل، مثلما ستكتمل حكاية  (ممي آلان) وحبيبته (زين الزينات) ، بنهايتها المأساويّة مع انتحار الحبيبين معًا، في الوقت الذي يكتشفان فيه أن خيوط الشرّ قد التفت حولهما . ومن هنا  يبرز الطابع التراجيدي، في جلال مهيب، وهو ما يجعل الملحمة/ الحكايّة واحدة من نصوص الكرد الخالدة عبر التاريخ.

يقول الدكتور عزالدين مصطفى رسول في المقدمة : هناك في (ممي آلان) قيم أدبيّة أثمن من هذا ، فعلاوة على موضوع الغرام نرى فيها شخصيّات أسطوريّة وقصصًا قصيرة ومظاهر لغويّة نحويّة ، يصل فيها إلى مصافي الآثار العالميّة الشموليّة كآثار هوميروس اليوناني وشكسبير الانجليزي وراسين الفرنسي وغوته وشيلر الألمانيين . ومن مؤلفات هؤلاء الشعراء العظام تعتبر "روميو وجوليت" شكسبير أقربها إلى قصتنا ، فبطلاها كبطلينا منكودا الحظ ، وكلاهما يخفقان في حبهما العذري، ويصبحان قربانًا له ، وبطلا شكسبير ينتحران في سبيل حبهما , ويمكننا القول أن مم يقتل نفسه أيضًا فهو يعرف أن الرمان مسموم ومع ذلك يأكله، ولكن بسبب استهجان الكرد والمسلمين لفكرة الانتحار فإن راوي القصة يمزج الأحلام بالقدر والقوى غير المرئيّة ، فيجعل من " مم وزين" شهيدين ويضعهما في الجنة ليصبح حبهما مقدسا وأبديا .

ويبقى ملحظ أخير نظنّ أنّه من الضروريّ الاشارة إليه، لقيمته الكبرى في توضيح  بنية الكرد الذهنيّة، ويتمثّل بميل السّارد الكرديّ إلى تقديم العبرة والموعظة، للقارئ  والمستمع، وهي تفيد أيضًا بأنّ الكرد ومنذ وقت مبكّر من تاريخهم الطويل، اكتشفوا أهميّة الدور الذي  يمكن أن تقوم السرديات به في حياة الناس .

  

 


* ممي آلان (ملحمة فولكلوريّة كردية)، ترجمة د. عزالدين مصطفى رسول، وزارة الثقافة والإعلام - دار الثقافة والنشر الكردية، بغداد، 1984.   

 في حالة النقل أو الإقتباس يرجى الإحالة الى المصدر:  مجلة الفنون الشعبية ،العدد 17 لسنة 2014 

 

© 2024 تطوير وتصميم شركة الشعاع الأزرق لحلول البرمجيات. جميع الحقوق محفوظة