الحريات والمبدع الشعبي / قراءة في فلسفة الموروث د.إيمان مهران[1]

توطئة

       ارتبطت الحريّة  بالطبيعة البشريّة، كما نمت مفاهيمها مع تطور الحياة الإنسانيّة. وكان لدراسة البيئة المحيطة بالإنسان أهميّة في معرفة الكثير حول قيمه ومعارفه التي يتعامل معها. فالإنسان ابن بيئتين تفرض عليه صورتين من الحريّة  الأولى ترتبط بملكاته وغرائزه الطبيعيّة، والثانيّة طبيعة مجتمعه الذي يسكنه والعادات التي تحكم علاقات الأفراد في هذا المجتمع. ويحاول المجتمع من خلال الموروث التقليدي الإبقاء على المناسب الذي في استمراره الحفاظ الخصوصيّة الثقافيّة.

  و الفنّ تعبير يتميّز بقدرته على التنوع،  وهو نتاج فعل قادر على تحقيق تواصل بين الفنّان والأفراد، وهو نشاط إنتاجي يتّسم بالخبرة الجماليّة، وتكمن خصائصه ووظائفه في طبيعته وكذلك أهميته

    وقد ذكر (جوته) أنّ للفن عمقه وقوته، وقيمته من خلال دوره من الناحيّة الجماليّة والخياليّة والعاطفيّة والعقليّة وليس في المحاكاة.

       بينما أكّد تولستوي أنّ الفنّ ظاهرة اجتماعيّة تحتاج إلى جمهور، ويرى (دوركيم) أنّ الفنّ الاجتماعيّ له مسحة دينيّة وهو من آثار العادات والتقاليد والعرف معبرًّا عن الأوضاع السياسيّة والاقتصاديّة.

       كما أنّ الفنّ إنتاج منظم له مدارسه وطرزه وأساليبه فهو يخضع لظروف المكان والزمان، وهو تراث وتجديد وتقاليد. و يؤكّد (شارل لالو) أنّ الفنّان يمثّل العقل الجمعي... والفنان كائن اجتماعيّ لا نفسيّ ولا ميتافيزيقيّ.[2]

   وهنا نتحدث عن إشكاليّة الحريات وكيف يعالج المبدع الشّعبيّ هذا المفهوم، محاولًا التوصل مع خامته الإبداعيّة إلى شكل لا يصدم المجتمع وتتبناه الجماعة الشعبيّة، وكيف يمارس الحريات ويترجمها في عمل إبداعيّ هو قراءة لمفهوم الإبداع المبنيّ على الانطلاق دون رقيب.

وستحاول هذه الدراسة الإجابة عن الأسئلة الآتيّة:

  1. ما مفهوم الحريات العامة ؟ وكيف يُدرك المبدع الشّعبيّ هذا المفهوم؟
  2. ما النماذج الإبداعيّة التي جسدت مفهوم الحريّة  لدى المبدع الشّعبيّ (في مجال التشكيل الشعبيّ)؟
  3. ما فلسفة الموروث في التعامل مع الحريات؟

وسوف يتم الوصول إلى ما تنشده هذه الدراسة من خلال إعادة قراءة أعمال المبدع الشّعبيّ من خلال مدخل مفاهيمي يرتبط بإدراكه للحريّة. وعرض بعض الأعمال الفنّيّة (التشكيليّة الشعبيّة كنموذج) وتحليلها كإبداع معبّر عن حريّة العامّة. التعرّض لفلسفة الموروث ومدى تفاعلها مع الحريّة  كمفهوم.

وتفترض هذه الدراسة ما يأتي:

  1. الحريات بتنوع مفاهيمها يمارسها العامة وتترجمها أعمال المبدع الشعبي.
  2. أنّ مجال التشكيل الشّعبيّ كنموذج يعكس الحريّة  بمفهومها المتّسع الذي يعبّر عنه المبدع الشعبيّ.
  3. أنّ فلسفة الموروث تعمل على احتواء الثقافات واستمرار ما تراه مسايرًا للنسق العام.

وأما حدود هذه الدراسة، فإنها ستكون محصورة بنماذج فنيّة من جمهوريّة مصر العربيّة، صنعت بعد العام 2000 حتى الآن، من قبل مبدعين من العامّة غير محدّدين بسنّ أو شريحة اجتماعيّة أو ثقافيّة. ولا بدّ ابتداءً من تحديد المصطلحات الأساسيّة المعتمدة في الدراسة، وهي على النحو الآتي:

  1. 1.   الحريات

     لقد أثرت الحضارات المتعاقبة بطول التاريخ الإنسانيّ على تعريف الحريّة.  فقد عاش الإنسان آلاف السنين في محاولة لأن يحقّق توازنًا مع ما يريده كفرد وما تفرضه عليه المجتمعات.

      ففي مصر القديمة  وُجد فجر الضمير، و كانت هناك قواعد تمس حقوق الإنسان وأيضًا حقوق الحيوان والنبات وحتى النهر قدسه الفراعنة كجزء من الطبيعة.

كما كانت (الكونفوشيّة) في الصين، و(الزرداشتيّة) في فارس، و(الهندوسيّة) في الهند، والبوذيّة (في جنوب شرق آسيا)،  وكلها مرآة لنمو الفكر الإنسانيذ التي تسعى لحريّة الإنسان. 

ويرى أحمد الرشيدي [3] أنّ الحريات ضمن مجموعة من مفاهيم (حقوق الإنسان) والتي تداولتها الدساتير والقوانين الوطنيّة في القرن 19 وعلى امتداد النصف الأول من القرن العشرين. و(الحريّات العامّة) تشمل الحريات السياسيّة كحريّة التّجمع، وحريّة تأسيس الجمعيّات وحريّة الصّحافة. أمّا الحريّات الخاصّة فتشمل الحريّات المدنيّة كحريّة التّملك والتّعاقد والعمل.

ولقد كانت الحريّات والحقوق الإنسانيّة من المحاور الرئيسيّة التي تناولتها، وفي الإسلام يرى محمد عمارة  أنّ الإسلام فيه من (الحريّة) الشيء الذي يحقق معنى "الحياة" للإنسان. وأنّ الإسلام بلغ تقديسه للحريّة الإنسانيّة الحدّ الذي جعل السبيل إلى إدراك وجود الذات الإلهيّة هو العقل الإنسانيّ، فحرّر سبيل الإيمان من تأثير الخوارق والمعجزات ومن سلطان النصوص والمأثورات، ومن سيطرة الرسل والأنبياء، فحجيّة النّصوص المقدّسة مترتّبة على صدق الرّسول الذي يبشرها. وصدق الرّسول مترتّب على صدق وجود الذات الإلهيّة التي أرسلته وأوحت إليه هذه النصوص؛ فلا بدّ من سبق الإيمان بهذه الذات على التّصديق بالرّسالة والنصوص ولا سبيل إلى ذلك سوى العقل المتحرّر من سيطرة الرّسل وتأثير الخوارق وسلطان المأثورات. وهنا قمّة التّحرير ونفي الإكراه في الدين " لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ).[4]

2.المبدع الشعبي

  المبدع الشّعبيّ هو الرّكيزة التي يبنى عليها نقل المفاهيم المجتمعيّة، وهو وسيط من وقت لوقت ومن مكان لمكان، فهو حامل المعنى في مباشرة ومواجهة وضمنيّة تعبر عن المكان ونسق مترجم للشعور الجمعي.

إنّ رؤيّة المبدع الشّعبيّ، وإن عبّرت عن شخص، إنها في الأساس تلتحم مع جماعته البشريّة التي لها مفاهيمها ورؤيتها،  فهو من خلال خبرته التي تلقى جزء منها من معلمه(الجزء الموروث) وجزء عايشها في بيئته(الجزء المحسوس)، ينقل طاقته في رموز دلاليّة تلمس الحس وتؤثر على نفسيّة المشاهد أو المقتني لها.

ويرى سعد الخادم أنّ المجتمع الشّعبيّ يحتاج دائمًا إلى رقيب يشرع له الذوق الذي يتمثل إلى التصرف الذي ينبغي أنّ يفعله، فلا يكفي أنّ تحدد للناس مواعيد الأعياد. [5]

ويؤكّد عبد الحميد يونس أنه يغلب على الإبداع الشّعبيّ أنه مجهول المؤلف الفرد، وليس معنى ذلك أنّ فريقًا متكاملًا ألفه، ولكنّ المعنى أنّ الوجدان الجماعي يعني بتحقيق الإبداع أكثر من عنايته بتحقيق اسم الفرد أو الأفراد الذين أبدعوه. وقد ظل الوجدان القوميّ يتشبّث بالمثال الذي انتخبه ورآه ملائمًا لما يريد أنّ يعبّر عنه، فلم يحتفظ به حقبة تقتصر أو تطول، ولم يجعله موضوع عنائه في بيئة واحدة مهما كانت، وإنما ظل يعبّر بوساطته عن هذا الوجدان بأبعاده التاريخيّة. وبما تصوّر من أمجاده، وبما أراد أنّ يرسّب من معارف، وبما اعتصم به من قيم يفرض على أفراده جميعًا التصعيد إليها في السمة والفكر والتعبير وفي السلوك جميعًا.[6]

3.علوم الموروث الشّعبيّ [7] 

هي مجموع المعارف المرتبطة بالحياة التقليديّة والممارسات الحياتيّة المتوارثة،  والتي تظهر في أشكال الإبداع الشّعبيّ المرتبط بالحياة اليوميّة لدى مجتمع بعينه، فهي مجموع الخبرات المنقولة من جيل الآباء لجيل الأبناء سواء المرتبطة بالموروث الشفهيّ أو المرتبطة بالموروث المادي المدرك بأبعاده الملموسة والمرئيّة سواء التي تحمل جانبًا نفعيًا أو جانبًا جماليًا.ويقسم العلماء الموروث الشّعبيّ إلى:

أ.الموروث الشفهي: كلّ المنقول من أقوال وأفعال وطقوس يستخدم فيها الّلسان،  رغم أنّ الّلسان مادي في ذاته يصدر صوتًا يسمع وينقل ألفاظًا ويحفظ ويردد ويعيد صياغة  الكلمات ويغني ويوضح في جمل وينسّق ويُحَرّف ويعيد إنتاج.  

ب. الموروث المادي:  هو الطبيعة المجسّدة التي تحوى الإنسان نفسه،  ففي وجوده يمتلك الإمكانات والقدرات  التي تمكّنه من أنّ يعيش وسط كائنات مرئيّة لها ملامح وأشكال؛ فالموروث المادي هو الملموس المحسوس الذي ارتبط بحاسة البصر واللمس و المحيط المادي الذي يتفاعل ويعيش مع الإنسان،  ويرتبط  بحاجة الإنسان من مسكن وملبس وأثاث وأدوات وكلّ الذي يحيط بالإنسان يستفيد منه ويؤثر فيه ويتأثر به.

منهجيّة البحث: يعتمد هذا البحث المنهج  الوصفيّ التّحليليذ من خلال  عرض وتحليل مفهوم الحريّات لدى المبدع الشعبيّ، وكيف يتعامل مع الرمز كمفهوم دلاليّ. ودراسة الحريات من منظور إبداعي وكيف يعبر عنها الموروث الشعبي. والتعرّف على فلسفة الموروث في التعامل مع الحريّات.

 

حريّة المبدع الشعبي:

الفنان الشّعبيّ جزء من بيئته ،  لذا كان لتأثره واقتناعه بالشكل الذي ينتجه بهدف نفعي أو جمالي الأثر الكبير في مستوى إبداعه،  فهو الذي يقف وراء المنتج الإبداعيّ يبحث عن الجديد الأكثر أصالة وتميزًا مستخدمًا في ذلك وسائل عديدة، ومستعينًا بالرموز التي تساعده على تحقيق هذا التميز.

وعند التعرّض للحريّات لدى المبدع لا بدّ من الوقوف على مفهوم الحريّة  لدى المبدع الشّعبيّ وحجم إدراكه لها.

حيث يحاول الفنّان الشّعبيّ دائمًا جذب مقتني مُنتجه الإبداعي بكافة الأشكال، و لكي يضمن تميّز منتجه يسعى للجديد الذي يضيف خصوصيّة للعمل، لتصبح هناك دوافع لدى المتذوق لمتابعة العمل الإبداعي، وهو ما يرتبط بحجم التأثر النفسي للمتذوق عند تعامله مع المنتج الفنيّ.

 

الحريّات كمفهوم لدى المبدع الشعبيّ:

ترتبط حريّة الإبداع لدى المبدع الشّعبيّ بثقافة المجتمع، وهي انعكاس يتوارى خلفه الممنوح  والممنوع، ولكنه هنا يستعمل أدواته الإبداعيّة ليعبر بحريّة كاملة عمّا يريده،  بل عمّا يحتاجه مجتمعه بشكل مباشر أو غير مباشر، وذلك تبعًا للموقف والحاجة الملحة لدى المبدع.

وتعد حريّة المبدع الشّعبيّ مساحة لتبادل جدل عميق بينه وبين متلقي هذا الإبداع؛ ذلك أنّ الحريّة  المتاحة للمبدع تحدد له شكل إنتاجه، وفي حال إقصائه أو تعرّضه لما يكبح هذا التحرر قد يفقد عمله الفني روحه المعبّرة.

من أجل مزيد من الحريّة تولد رموز ومعان وعلامات هي التنفيس الحقيقي لممارسة الحريّة ، وهي رموز مجازيّة تنقل الخفيّ لديه لتعطي للمساحة الإبداعيّة عباءة ضمنيّة تمنحها للمتذوق من العامة؛ فالمبدع هنا وسيط ومعادل للحريات يتحرّك بشكل يعكس ملامح خاصة لا يرتبط فيها بزمان أو مكان.

إن المبدع الشّعبيّ له مكانه الافتراضي، ويتجاوز الزمان الذي يخلقه محلّقًا بعيدًا عن الأطر التي تحيطه وتحدّ من تفاعلاته التي يدركها ولا يمارسها في محاولة لخلق معادل نفسيّ لذاته الإبداعيّة.

الرمز كمفهوم دلالي لحريّة التعبير:

 إنّ المعالجة التجريديّة في التشكيل تحتاج إلى خبرة كما تحتاج إلى فهم المبدع لطبيعة دلالة هذا الرمز في بيئته وأهميته،  وهو ما يقدم رمز على آخر حينما يضع التصميم العام لمنتجه الفني.

    وسواء أكان الرمز تشكيليًّا أم تشخيصيًّا أم موسيقيًّا فإنّه في النهايّة يعتمد على الاستجابة الوجدانيّة عند المتلقي لذا ارتبط الإبداع بشخصيّة المبدع ومدى خبرته الإنسانيّة والمهنيّة وقدراته الفنّيّة الخاصّة.

وهنا يأتي دور المبدع الشّعبيّ في صياغة الرمز الدالّ المعبّر ليكون واضحًا، مقروءًا ومعبرًا عن فئته الاجتماعيّة ومجموعته الثقافيّة، وهو ما يوضّح لنا صعوبة ما يقوم به المبدع الشّعبيّ، فهو يقوم بتجريده لشكل دال، وهو هنا، حينما يختار الشكل، يقدّم معالجة شديدة الدقّة حتى يصل بها إلى مدلولها في ذاكرة المشاهد لها.

ويرى فرويد أنّ (محتويّات اللاشعور الجماعيّ تتكوّن من صور تشكّلت في العقل من أقدم الأزمان، إذ هي (بقايا لوجود قديم عاشته أناوات سابقة هو لاحق لها) ومتى حوّلت إلى عبارات "شعوريّة"، واتخذت شكل حكمة القبيلة أو الخرافة.

       ويطلق يونج اسم الطراز البدائيّ العتيق (Archetype) على الحقيقة النفسانيّة التي تدعم تلك الإظهارات. والطرز البدائيّة العتيقة لا تتكون من موروث الفكرات أو الصور، وإنما هي تتكون من استعدادات موروثة سابقة لإحداث ردود الأفعال، فهي مراكز نفوذ أو حقول قوّة تقوم في داخل اللاشعور.

       ويذكر يونج أنّ الرّموز العامّة والصور المركّبة ذات الطراز البدائيّ العتيق إنما هي تعبيرات عن الموقف الأوديبيّ في جملته الكليّة، فإذا حدث توتّر معيّن بين الفرد وبيئة استمر أثناء جميع العهود الذهبيّة التي تطورت فيها البشريّة، وإذا كان هذا التوتّر قد ولد نفس عمليّة الرمز اللاشعوري في أثناء هذه العصور الذهبيّة جميعًا، فإنه من المحقق أنّ المجادلة بأن هذه الظواهر لا تكون نفسًا جماعيّة، بل مجموعة من الأنفس المتماثلة يعد ضربًا من التلاعب.[8]

 

 

الحريات وفنون التشكيل الشعبي

     تلعب البيئة الثقافيّة دورًا حيويًا في تكوين عقيدة الفنانين ووجدانهم، إلى جانب العوامل الطبوغرافيّة والتأثيرات الحيويّة الناتجة عنها.  كما أكّد الباحثون أنّ هذه العوامل في مجملها تعطي الفنّان أعظم عطاياها، فهي تمنحه الفكر والمادّة والأسلوب، وتمنحه الإحساس الجمعيّ بالجمال كما تحدّد له صور العلاقة بين الشكل والمضمون ووظيفتها النفعيّة.

إنّ ما ليس في البيئة يخلقه الخيال، وقد يضطر إلى الارتكاز على بعض ما يرى ليصف ما نتخيل، ولكن خاصيّة الخيال أينما يكون وكيفما يكون.[9]

وهنا نتخذ مثالًا من الإبداع التّشكيليّ الشّعبيّ الذي لا يقصى ثقافة ولا يحذف جزءًا من الذاكرة التراكميّة لمجتمعه،  فهو يحقّق المساواة  سواء الظاهر منها كالمفردات أم الباطن من خلال توزيعه لعناصره المختلفة التي قد تعطى في تكوينها مدلول.

الحريّات التي يمارسها المبدع الشعبي

هناك ملامح عديدة لحريّة التعبير تظهر في مجالات التعبير الفنّيّة المختلفة،  تعكس عدم وجود قيود على المبدع خلال ممارسات عديدة ارتبطت بالحريّات الآتية:

1.   حريّة الاعتقاد

لم يكن الاعتقاد يومًا ليفرض على الأفراد بل إنّ ارتباط الفرد بمجموعته هو ما يؤثّر بشكل مباشر على فكرة الاعتقاد، والاعتقاد بفكرة أو مبدأ أو ديانة بعينها يقتضي بالأساس التبعيّة المباشرة للمجتمع، فالفرد يقتني ويتعايش في مناحي الحياة، أشكالا، ورموزا، تتطوّر دلالاتها مع الزمن، وقد تفقد دلالتها الأصلية، وتصبح مجرّد مادة تزيينيّة، ولو فهم معناها المقتني لها  قد لا يقتني الشكل الذي يحتوي تلك المعاني وتعنيه تلك الرموز... فالمتعة الجماليّة والحالة الوجدانيّة أو الحاجة للمنتج ولوظيفته النفعيّة قد تتخطى فكرة أنّ يكون الفرد متفهم للرمز أو معتنق لما يعنيه الشكل من مفاهيم أو معاني متراكمة تغيرت معانيها على مر العصور.

نماذج من المعالجات التّشكيليّة لحريّة الاعتقاد

 فن الوشم

ارتبط فن الوشم بالموالد سواء موالد الأولياء أو القديسين، كما كان له مريدوه من كلّ الأعمار، وقد كان للفنان الشّعبيّ الحريّة  الكاملة في معالجة التصميم الموشوم. حيث ارتبط الوشم بالرموز الدينيّة والعلامات الدلاليّة التي ترتبط بالعقيدة ونصوصها المقدّسة سواء الإسلاميّة أو المسيحيّة.

  فن النحت

كانت مصر بلاد النّحت والعمارة منذ بدايّة التاريخ، ونحن هنا حينما نتحدّث عن الإبداع التشكيلي الشّعبيّ نشاهد معالجات متعددة للأشكال النحتيّة تعكس فهم الفنّان الشّعبيّ لأسرار المجال الفنيّة،  وتملأ كل مناحي إبداعه؛ فهناك أعمال عالجت التشكيل المعماري وذلك سواء من خلال فن الفخار أو فنون الحجر المختلفة أو تشكيلات الحلوى المرتبطة بالموالد.  حيث نجد تراكمًا في المعرفة الجماليّة بقوانين التشكيل، كما نجد النحات الشّعبيّ استعمل التّشخيص في التّعبير عن هويّته الدينيّة، دون قيد أو شرط.

  1. 2.   حريّة التعبير الجسدي

لقد صنع التّاريخ الإنسانيّ نماذج تعبيريّة شديدة الجمال شديدة التّعقيد في التعامل مع الجسد، فحينما يتعامل الجسد كشريك في  الحياة تتغيّر هيئته التي هي ضمن عرض فنّي يعكس التحام الجسد مع الطبيعة، وفي حوار خفي يحاول الالتحام مع الطبيعة فهذا الخفي فيما وراء الطبيعة. والتعامل مع الخيال الشّعبيّ وتمكينه من الالتحام بالطبيعة جسدته الشعوب في ممارستها الطقسيّة المتتاليّة والمرتبطة بالديانات السماويّة، وغير السماويّة.

ويمكن هنا أنّ نشير إلى الدراسة التي تقدم بها هازبل شونج في القاهرة (1984م) بعنوان "الحركة الواقعيّة والهويّة الثقافيّة" إذ تقرر تلك الدراسة أنه على امتداد العالم كله، تعد الحركات الأساسيّة للجسد البشريّ، من أكثر الأشياء تعبيرًا عن الهويّة الثقافيّة بصورة واضحة ومباشرة، فإذا تأمّلنا حركات الجسد وجدناها من الخصائص المميّزة التي تحدّد لنا هويّة الفرد، بل هويّة المجتمع بأسره. [10]

نماذج من المعالجات التّشكيليّة لحريّة التعبير الجسدي

v   نماذج من فنون الأداء:

  بدأت فنون الأداء منذ وُجد الإنسان فهي فنون ترتبط بحركات الجسد ومحاكاة الطبيعة.  وقد لازم الإبداع الجسد منذ بدأ الإنسان في محاكاة الطبيعة، ومن هنا كانت للحياة الأوليّة بكل مراحلها قراءتها المتنوعة، فقد كان لتنوع الطبيعة الكثير من إفرازاتها التي أعطت الإنسان حلولاُ في فن المحاكاة سواء اللعبيّ أو الرّقصيّ أو التّمثيليّ أو الغنائيّ، فكلّ ذلك يدور داخل الثقافة بمراحلها المرتبطة بعلم الأنثربولوجيا.

 

 

 

 

الرّقص            

الرقص إيقاع مليء بحيويّة الإنسان،  وهنا في الحريّات يعدّ الرّقص إعادة توظيف للحركة بشكل إيجابيّ،  وسنجد في فنون التشكيل الشّعبيّ أنّ التعامل مع فنّ الجسد كتشكيل نحتيّ له جمالياته المرتبطة بتوظيف الحركة لخلق جمالياّت متوازنة، وعلى نحو إيقاعي، وهنا تراكم الموروث ونقل التجربة من جيل لجيل ومن مكان لمكان يظهر فروق بينيّة تتعلق بالحريات.

 اللعب

ونقصد باللعب تلك الفنون الابتكاريّة المبنيّة علي المشاركة التي تفرز فكرًا أو حركة أو أداءً، والا ترتبط بمكان ولا هيئة تنظيميّة، ولكنها تركن على قواعد وشروط سهلة غير معقدّة تُسهل التعامل معها وتسمح بانتشارها الجغرافيّ السّريع، وهي لا تضع شروطًا لممارستها في النوع أو الجنس أو السن.

لذا تمثل الألعاب متنفسًا اجتماعيًّا يسمح بالمشاركة الاجتماعيّة. وهي في تنوعها تتفق مع النشأة الفطريّة الأولى للإنسان نظرًا لارتباطها بالطبيعة الحسيّة وبالنّمو الجسديّ والعقليّ للإنسان.

والألعاب إرث تقليدي يتّسم بالمرونة، ويحمل ملامح الإبداع كونه يعتمد في تكوينه الأصالة والتجديد على حد سواء. وليس اللاعب فقط صاحب تلك الإبداعات، بل إنّ كلّ المحيط البيئيّ يأخذ ويضيف للعبة، فهو إبداع جمعيّ مرتبط ببيئته. وإرث جمعيّ أسطوريّ تراكميّ يحمل ما تبقّى من عهود قديمة كان الجسد والتشكيل الرمزي أساس في التواصل الإنساني.[11]

  1. 3.   حريّة التخيّل

 إنّ الخيال هو عماد كلّ فنّ، وقد يتداخل كثيرًا في دراسة البيئيّ أو المحليّ في مقارنته بالعالميّ. و عمل الخيال يتبع عالميًا مآرب معينة، وينفرد بخصائص كليّة إلى جانب خصائصه العامّة أو العالميّة.[12]

يرى هربدت ريد [13] أنّ الفنّ ينطوي على مبدأين رئيسيين: مبدأ  " للشكل" مستمر في رأيي من العالم العضوي، ومن الناحيّة الموضوعيّة الشاملة الموجودة في جميع الأعمال الفنيّة، ثم "مبدأ الإبداع" وهو شيء أختصّ به العقل البشري، كما أنّه يضطرّه إلى خلق وابتداع ما يخلق من الرموز والخيالات الغريبة والخرافات Myths التي لا تتّخذ لنفسها وجودًا موضوعيًّا صحيحًا صحّة عامّة إلا بفضل مبدأ الشّكل والشّكل وظيفة يقوم بها "الإدراك"،  والإبداع وظيفة يقوم بها "التّخيّل" وللفنّ وظيفة بيولوجيّة واجتماعيّة. وله أهميّة جوهريّة في جميع مجالات الحياة، فالحياة نفسها شيء جماليّ، وهي لا توجد إلا نتيجة لاحتوائها على الجمال.

نماذج من المعالجات التّشكيليّة لحريّة التخيل

في حين حرّمت المعتقدات الدينيّة والاجتماعيّة الكثير من التصورات حول الأنبياء، فإنّ التشكيل الشّعبيّ ترك للفنان الشّعبيّ حريّة التخيّل دون إقصاء، بل إنّ هناك رسومًا لسيرة الرسول (سيرة بن هشام)، كما كان للفنّان التشكيلي الشّعبيّ على الدوام السبق في التعامل مع المعالج التخيّلي للشكل المتخيل.

  1. 4.   حريّة معالجة الرّمز

نقصد هنا بالرمز الشكل المجرّد المعبّر والمرتبط بدلالة تعنى بالنوع أو الدين أو الجنس،  والتشكيل الرّمزي هنا يعتمد على تنوّع الخامات،  وعلى معطيات البيئة المختلفة.وقد نظر الفيلسوف الأمريكي نيلسون جودمانN.Goodman Languages of art في دراسته "لغات الفن" وهو كتابه الذي ظهر العام 1976م. رأى الأعمال الفنّيّة بوصفها أنساقًا من الرموز، وعقد مقارنات بين التمثيل البصري والوصف اللفظيّ، وقال إنّ قراءة اللوحات وقراءة النصوص تشتملان عمليات تمييز وإحاطة بصدق، وإن الخبرة الجماليّة هي خبرة ديناميّة وليست خبرة سلوكيّة ساكنة، وإنها تشتمل على القيام بتمييز دقيق، وكذلك على التنبيه إلى العلاقات المرهفة الدقيقة، وعلى تحديد للأنظمة الرمزيّة والخصائص المميّزة لها داخل الأنساق الفنيّة، وكذلك ما تشير إليه هذه الخصائص وما تقوم بتمثيله وتفسيره من أعمال، ومن ثمّ يعاد تنظيم العالم في ضوء الأعمال الفنيّة، ويعاد تنظيم الأعمال الفنّيّة في ضوء العالم أيضًا. [14]

 

  1. 5.   حريّة التصميم والتكوين الزخرفي

يحاول الفنّان الشّعبيّ احترام موروثه وعرض المعبر عن كافة مراحل معارفه وحضاراته، ونشاهد هذا واضحًا في منتجات النسيج اليدويّ في مصر. التي تضع تكوينات في تصميمات زخرفيّة مركّبة دالة على عصور متعددة في مزج فنّي راق محكوم بأسس وقيم التصميم المعقّدة في بساطة، الدالة في إيجاز.

 

فلسفة الموروث الشعبي

يستلهم المبدع الشّعبيّ من المحيط البيئيّ الذي يعيش فيه، فهو ضمن منظومة يعبر عنها، والعمل الفنّي هو لغة لها مفرداتها، بل إنّ اللغة هي الوسيط التطبيقيّ لنقل المشاعر الوجدانيّة، وهنا يبرز دور الحريّات في منح المبدع صلاحيّات أكبر وأوسع في التعبير عن نفسه وعن جماعته الثقافيّة.

إن فلسفة الموروث التي تسير على الانتقاء والاختيار للصالح المدعم لمجموعته الثقافيّة تتلاقى مع هوى المبدع الشعبيّ، وذلك في أطر من إعادة معالجة الرّمز والتصميم،  ليتجدّد التعامل معه ويستمر. وهنا نجد الحريّات تتسع وتضيق من فترة لأخرى تبعًا للتداعيات الاجتماعيّة والسياسيّة والعقائديّة التي يتعرض لها مجتمع المبدع.

وتعتمد فلسفة الموروث الشّعبيّ على اللاشعور الجمعي، وهو جزء مهمّ يترفع عن الأفراد ولكنه يضمن المتفق عليه بينهم في المجتمع. والموروث التقليديّ يدعُم كلّ المدخلات، ولكنّه يفرزها ويخضعها لنسقه، وهنا تركن فلسفة المستمر الذى يعتمد على الحاجة النفسيّة والاجتماعيّة،  والتي يدعمها المبدع بالحفاظ على المتّصل ذهنيًا مع مجتمعه المتذوق لعمله الفني.

إن قضيّة الموروث واستمراره تعود إلى درجة المرونة التي تسمح بالإحلال والتبديل دون مسخ للكنة الأساسيّة للإرث، وهو ما يحتاج تركيز وعقل جمعيّ واعٍ بحاجة المجتمع وما يلمس وجدانه، فالموروث الشّعبيّ في مجمله هو العقل الجمعي المستمر، وهو أيضًا الروح النابضة التي تعطي لكل مجتمع خصوصيّته التي هي جزء منه.

ومن كلّ ما سبق نخلص إلى ما يأتي:

-      تنوع الحريّات التي يمارسها المبدع الشعبي، و يترجمها في أعماله الإبداعيّة (التشكيليّة الشعبيّة نموذجًا).

-      تحتوي فلسفة الموروث ثقافات المجتمع بكافّة أنماطها، كما تعكس الاستمراريّة في التعامل مع المناسب لنسق المجتمع.

-      استمراريّة الرموز تعود إلى حاجة المبدع والمجتمع لها على السواء لما يؤدّيه وظيفيًا وجماليًا لثقافته المحليّة.

وأخيرا فإن الدراسة توصي بتعديل زاويّة النظر إلى المبدع الشّعبيّ بوصفه إنسانًا مؤثرًا وسط جماعته، يجب الالتفات إليه، وإعطاؤه مكانته التي يستحقّها بوصفه ممثلاً للثقافة الأصيلة لدى المجتمعات، فضلاً عن ضرورة دراسة الموروث بمناهج فلسفيّة في إطار البيئة المحليّة.

 

الإشارات

 

[1] باحثة في التراث، وأكاديمية مصرية.

 

[2].  سلمى عبد العزيز، هاني جابر، الفنّ في الحضارة (دراسة مقارنة في الفنّ والثقافة، بدون تاريخ، ص27، 28، 29.

 

[3].  أحمد الرشيدي،  حقوق الإنسان (نحو مدخل إلى وعي ثقافي)، قصور الثقافة، 2005، ص18.

 

.[4] محمد عمارة، الإسلام وحقوق الإنسان (ضرورات لا حقوق)، مرجع سبق ذكره.

 

[5].  تاريخ الأزياء الشعبيّة في مصر، سعد الخادم، المركز القومي للمسرح والموسيقى والفنون الشعبيّة، 2006.

 

[6]. عبد الحميد يونس،  الإبداع الشعبي،  قطر، العدد الخامس، يناير 1987، ص 23،  عن:  تراث الإنسانيّة ، مج 6 ص 422.

 

[7]  إيمان مهران،   كِبارُ السنِّ والموروثُ الشَّعبي، مكتبة الأنجلو المصريّة، 2012، ص 59، 60  .

 

[8].  هربرت ريد، التربيّة عن طريق الفن، مراجعة مصطفى حبيب، الهيئة العامة للكتب والأجهزة العلميّة، وزارة التعليم العالي،1970. ، ص 249، 250.

 

[9]. سلمى عبد العزيز، مرجع سبق ذكره، بدون تاريخ.

 

[10].  سلمى عبد العزيز، هاني جابر، مرجع سبق ذكره، بدون تاريخ،ص 66.

 

[11].  إيمان مهران، الألعاب الشعبيّة والهويّة الكونيّة، مكتبة الأنجلو المصريّة، 2012.

 

 

[12].  عبد الحميد يونس، الإبداع الشعبي، نفس المرجع السابق، ص 33 عن: سهير القلماوي، مجلة الفنون الشعبيّة، العدد الأول، السنة الأولى، يناير 1965م، ص 11.

 

[13].  هربرت ريد،  مرجع سبق ذكره،  ص 249، 250.

 

 

[14].   Goodman, N.(1976). Languages of Art: An approach to atheary of symbols. Indianaplis: Hechett publishing company)  عن التفضيل الجمالي_دراسة في سيكولوجيّة التذوق الفني، عالم المعرفة، 2001، الكويت، ص 198.

 

 

 

المراجع

  1. أحمد الرشيدي،  حقوق الإنسان (نحو مدخل إلى وعي ثقافي)، قصور الثقافة، 2005.
  2. إيمان مهران،   كِبارُ السنِّ والموروثُ الشَّعبي، مكتبة الأنجلو المصريّة، 2012.
  3. إيمان مهران،   الألعاب الشعبيّة والهويّة الكونيّة، مكتبة الأنجلو المصريّة، 2012.
  4. جان مورانج، حريّة التعبير، بروكسل، بريولانت،2009.
  5. سعد الخادم،  تاريخ الأزياء الشعبيّة في مصر،  المركز القومي للمسرح والموسيقى والفنون الشعبيّة، 2006.
  6. سلمى عبد العزيز، هاني جابر، الفنّ في الحضارة _دراسة مقارنة في الفنّ والثقافة، بدون تاريخ.
  7. عبد الحميد يونس، الإبداع الشعبي، قطر، العدد الخامس، يناير 1987.
  8. مجاهد إبراهيم عبد المتعال، حريّة الرأي والتعبير بين السيادة والعولمة، المعهد العربي للتنميّة والمواطنة،  المملكة المتحدة،2010.
  9. مجموعة من الباحثين، إرهاب الفكر وحريّة الإبداع، مركز الدراسات والمعلومات القانون لحقوق الإنسان، القاهرة، 1995.
  10. مجلة موارد، منظمة العفو الدوليّة، العدد 16، ، برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في منظمة العفو الدوليّة،  المكتب الإقليمي في بيروت، 2009.
  11. محمد عمارة، الإسلام وحقوق الإنسان (ضرورات لا حقوق)، دار الشروق.
  12. مصطفى عبد العزيز، التفضيل الجمالي: دراسة في سيكولوجيّة التذوق الفني، عالم المعرفة، 2001، الكويت.
  13. هربرت ريد، التربيّة عن طريق الفن، مراجعة مصطفى حبيب، الهيئة العامة للكتب والأجهزة العلميّة، وزارة التعليم العالي،1970.

 


  في حالة النقل أو الإقتباس يرجى الإحالة الى المصدر:  مجلة الفنون الشعبية ،العدد 17 لسنة 2014

© 2024 تطوير وتصميم شركة الشعاع الأزرق لحلول البرمجيات. جميع الحقوق محفوظة