(طبيعتها، وشهرتها الدينيّة والتاريخية)
إعداد
د.أحمد مصطفى القضاة
محرر وباحث في الموسوعة العجلونية
أستاذ مشارك في جامعة العلوم الإسلامية العالمية
المحتويات
أوّلاً- طبيعة جبال عجلون:
1- المقدّمة.
2- جبال عجلون(الاسم والأهمية الطبيعية والإستراتيجية).
3- مدن وقرى جبال عجلون.
ثانياً- الشّهرة الطبيعية والدّينية والتاريخية لجبال عجلون:
4- أحداث ومعالم حضارية في جبال عجلون
5- الشهرة الدينيّة لجبال عجلون
6- شهرة جبال عجلون التاريخية منذ الفتح الإسلامي وحتى نهاية العهد العثماني.
جبــــــال عجلـــــون
(طبيعتها، وشهرتها الدينيّة والتاريخية)
أولاً- طبيعة جبال عجلون
1-المقدّمة :
جبال عجلون سلسلة من الجبال الكثيرة المرتفعة، تقع في الركن الشمالي الغربي من الأردن، وتشكل جزءاً كبيراً في المنطقة الشمالية الغربية، ومساحة واسعة من مساحات الوطن، وقد اشتهرت قديماً عند الأمم والشعوب وعند ساكنيها وزوارها بجبال عجلون، وما زالت التسمية غالبة على كل التسميات التي أطلقت عليها، ذلك أن جمال الجبال وروعة الوديان وبهاء الأشجار أكسبها وصفاً ملاصقاً لم تغيره الأحداث والوقائع، ولم تزده الأوصاف والأيام إلا جمالاً فوق الجمال الممنوح، الجمال الذي عشقه القدماء عبر التاريخ، والجمال الذي استقطب قلوب السياح رغم بعد المسافات.
تكسو هذه الجبال الأشجار الخضراء، وتغطيها في أغلب أيام السنة ألوان النباتات الزاهية، وتتعرج في أوساطها الأودية والمنعطفات، لترسم على صفحات الواقع أجمل اللوحات الفنية وأبهى الصور التشكيلية، وهي تحيي في النفوس ذكريات الماضي المجيد، وتطلعات المستقبل المكنون.
عرفت هذه الجبال عند القدماء بالاسم الأموري جلعاد، وبقيت مشتهرة وقتاً من الزمن حتى أخذ اليهود هذه التسمية(1)، وأدرجت ضمن أخبار التوراة عن الأحداث والوقائع، وخاصة عند ذكر المقاتلة التي تمت بين العمونيين والإسرائيليين في وادي اليابس(2)، وكلمة جلعاد تعني الصلابة أو الخشونة، وهي تسمية تتفق مع طبيعة البلاد، فالجبال صلبة والحياة فيها خشنة، إذ قد يحمل معنى العيش فيها الصلابة والخشونة، على اعتبار أن الزراعة والحراثة والتنقل والعمران وما شابه ذلك يحتاج إلى صلابة وخشونة.
2- جبال عجلون(الاسم والأهمية الطبيعية والإستراتيجية):
وأما تسميتها بجبال عجلون فهي تنسب حسب المصادر العربية إلى راهب اسمه عجلون كان يسكن في دير في جبال عوف، في منطقة القلعة الحالية، ثم انتقلت التسمية إلى البلدة المجاورة ثم إلى الجبال المحيطة لتشمل مساحات واسعة وجبالاً عدة.
يقول ابن فضل الله العمري المتوفى عام 749هـ: 1348م في كتابه مسالك الأبصار في ممالك الأمصار: (كان مكانها –أي القلعة- دير فيه راهب اسمه عجلون فسميت به)(3). كما قال ذلك العلامة القلقشندي المتوفى عام 821هـ: 1418م في كتابه –صبح الأعشى في صناعة الإنشا(4).
هذه التسمية حسب المصادر العربية، وقد يوجد بعد آخر لتسمية الجبال بعجلون ذات صلة قوية بطبيعة البلاد، أو بطبيعة الأمم التي سكنتها، أو بمعتقدات تلك الأمم أو بسلوكياتهم، ذلك أن الاسم لا يأتي من فراغ ولا يطلق جزافاً، فهي ذات صلة قوية بذات الشيء المطلق عليه.
ويشير كلام ابن فضل الله العمري وكلام القلقشندي إلى الوجود السكاني على جبل القلعة منذ زمن بعيد، كما يفهم منها أيضاً اعتزال الراهب المسمى بعجلون في منطقة القلعة بدير هناك، والوجود السكاني في المنطقة الشرقية من منطقة سكنى الراهب على اعتبارها أنسب بقعة للسكن بالنسبة لغيرها.
وقد رجح الأستاذ مصطفى الدباغ في كتابه –بلادنا فلسطين(5) أن اسم عجلون من جذر عجل سامي مشترك يفيد العجل صغير البقر والاستدارة، والواو والنون في آخر الاسم للتصغير حسب الطريقة الآرامية في التصغير، فيكون المعنى المكان الصغير المستدير، أو العجل الصغير.
وليس بمستبعد أن يكون الكنعانيون قد اتخذوا العجل إلهاً لهم ضمن معتقداتهم الخرافية الأسطورية، ذلك أن فئات من الناس كانوا يعبدون الظواهر الطبيعية أو المخلوقات الموجودة بمحيطهم، وقد ذكر في التاريخ أن عبادة الأصنام دخلت إلى الجزيرة العربية من بلاد الشام، ولا عجب حينئذ أن أطلقت بعض التسميات ضمن معتقدات دينية.
وقد نرجح هذه التسمية فعلاً على اعتبار أن المنطقة تمثل أمكنة مستديرة، وهي بمجموعها تشكل مكاناً مستديراً، وكل جبل يشكل مكاناً مستديراً أيضاً، فالأشكال المستديرة في ثنايا جبال عجلون واضحة بينة، هذا إذا أخذت التسمية على معنى الاستدارة، أما إذا أخذت على معنى العجل الصغير فإن منطقة فلسطين وبلاد الشام وكل البقاع كانت تعتني بالأغنام والأبقار، وقد ورد ذكر الأبقار كثيراً في صفحات التوراة أثناء حديثها عن بني إسرائيل ووقائعهم وأحداثهم في بلاد فلسطين، ثم إن الحياة يومئذ كانت تعتمد على الزراعة والري أكثر من غيرهما، فقد يكون أخذ الاسم من دلالات الواقع الذي يعيشونه، ثم إن نسبة الاسم إلى صنم كان يعبده الكنعانيون محتمل، فإن بني إسرائيل عبدوا العجل الذي صنعه لهم السامري كما حدث القرآن الكريم في آياته، وإذا نسبنا الاسم إلى التاريخ الذي وجد فيه الراهب المسمى بعجلون فقط، يبقى التساؤل قائماً من حيث نسبة هذه التسمية إلى ذلك الراهب، ويمكن الجمع بين كل الدلالات السابقة، بأن التسمية أخذت من واقع معتقد، وإن كان هذا المعتقد باطلاً خرافياً، وإلا تكون قد أخذت من ظواهر الطبيعة.
وأما ما ورد من لفظة عجلون في التوراة فلا علاقة لها باسم المدينة الحالية أو التسمية الحاضرة، لأن الكلمة التي في التوراة بكسر العين وليس بفتحها(6)، وهي اسم لملك مؤاب الذي قتله الإسرائيليون غيلة في أريحا سنة 1150 ق.م، وقد نسب ابن فضل الله العمري والقلقشندي التسمية لراهب وليس لملك، ثم إن التوراة كانت تسمى المنطقة المقابلة للقدس ونابلس وجنين والواقعة شرقي النهر بجلعاد، أخذاً من التسمية الأمورية، وقد تشير هذه التسمية إلى أن النسبة لعجلون كانت متأخرة عن تسميتها بجلعاد، إلا أن يكون حرف العين قد فتح بعد كسره.
وقد نسب السيد لويس مخلوف في كتابه الأردن تاريخ وحضارة اعتقاد المؤرخين إلى أن جبل عجلون ومدينة عجلون قد حملا اسم ملك مؤاب(7) عجلون-، مع العلم أن التسمية موجودة قبل تاريخ ملك مؤاب الذي ورد ذكره في التوراة، كما أن نسبتها لملك مؤاب مغاير لتسمية المؤرخين الذين ورد ذكرهم آنفاً.
ولا بد من الإشارة في معرض الحديث عن ذكر الجبال بجلعاد في التوراة إلى أن الإسرائيليين كانت لهم يومئذ أطماع توسعية عدوانية على المنطقة الشرقية، ومن هذه الأطماع التوسعية محاولة الاعتداء على أهل وادي يابيش (وادي اليابس) كما ورد في التوراة بحجة مقاتلة العمونيين، لكن شجاعة أهل الوادي ردت كيدهم وقطعت أطماعهم، وقد دلت أحداث التوراة على ذلك، كما دلت الأحداث التاريخية المذكورة عندهم على خلو المنطقة منهم تماماَ.
هذه سبب تسمية الجبال بعجلون كما ذكرت في المصادر، واحتملت من أقوال ومعان، أما المنطقة التي كانت تحويها جبال عجلون في العصور القديمة، وحتى في العصور المتأخرة، فهي منطقة واسعة شاسعة، تضم جبالاً كثيرة، وأودية كثيرة، وتحوي مناطق ومناطق، وإنك لتلمس الاتساع من تسميتها بكلمة جبال قديماً وحديثاً، تلك الكلمة التي تعني الشموخ والرسوخ، كما تعني الكثرة والتعدد، وإنك لتسمع للكلمة صدى وأنت تقرؤها في بطون الكتب، أو تربطها بأحداث التاريخ الغابر.
ولقد كانت جبال عجلون تشكل الجزء المسمى بالمنطقة الشمالية الغربية من المملكة الأردنية الهاشمية، وكانت حلقة الوصل الضرورية بين بلاد الشام وأرض بيت المقدس، وكانت تضم المنطقة المحصورة ما بين اليرموك شمالاً، ونهر الأردن غرباً، ونهر الزرقاء جنوباً، ومشارف جرش شرقاً، إذ الذي يفصل بين جبال القدس ونابلس وجنين من جهة وبين جبال عجلون من جهة أخرى نهر الأردن مع الشريط الترابي المحيط به، ولذلك تعد الجبال من حيث الأهمية مجاورة لجبال القدس المباركة والرائي لمشارف القدس ومآذنها عن أبراج القلعة الشامخة ينعم بنظرات مؤنسة من الأرض المقدسة، ومن هنا فإن تربة عجلون يشرفها وطء أقدام الصحابة والمجاهدين عليها، وإذا كان طاعون عمواس أخذ أعداداً هائلة من المجاهدين المسلمين، فإن تربة عجلون يشرفها ضم بعض رفاتهم الطيب الطاهر، وإن كانت لم تظهر معالمهم على أعمدة وأنصبة وحجارة.
وأما الجهة الشمالية من الجبال فقد وصلت إلى أرض اليرموك، وفي هذا زيادة شرف في أنها حوت معركة من معارك الإسلام الكبرى، وقد كانت إربد والكورة إلى عهد قريب من أعمال عجلون، وذلك في أواخر الدولة العثمانية، فقد جاء في الكتاب السنوي الرسمي للدولة العثمانية الصادر عام 1910م أن قضاء عجلون كان يتألف من مدية واحدة وهي إربد ومن ناحيتي كفرنجة والكورة ومن 120 قرية(8).
وفي الجهة الشرقية كانت تضم الجبال مدينة جرش، وتصل الحدود إلى الجهة الشرقية من المدينة، ولذلك فهي تعود إلى تاريخ بشري قديم، إلى تاريخ الرومان وأيامهم وأحداثهم وآثارهم، وكذلك تحفظ بصمات الأمويين الذين سطروا لهم تاريخاً في الجهة الشرقية من جبال عجلون، فكان الجامع الأموي الواقع في منطقة آثار جرش معلماً حضارياً بارزاً.
ولما وصف الأستاذ لانكستر هاردنج –المدير الأسبق لدائرة الآثار الأردنية- آثار جرش في كتابه –آثار الأردن- قال: تقع آثار جرش في واد بين جبال جلعاد(9).
وأما في الجهة الجنوبية فهي مع جبال البلقاء الذي يفصل بينهما نهر الزرقاء تكوّن الشريط الجبلي الوحيد المحاذي لنهر الأردن، وكأن الجبال وقعت بين ثلاثة أنهر: اليرموك والأردن والزرقاء. لتكون المعبر الوحيد مع جبال البلقاء إلى الأرض المقدسة.
وقد ألف الدكتور يوسف غوانمة –الأستاذ في جامعة اليرموك- كتاباً بعنوان –المساجد الإسلامية القديمة في منطقة عجلون- ذكر فيه أن منطقة عجلون تمتد من وادي الزرقاء جنوباً إلى اليرموك والسواد شمالاً، ومن وادي الأردن غرباً إلى منطقة البرية شرقاً خلف مدينة جرش، وذكر فيه من مساجد منطقة عجلون المسجد الأموي في مدينة جرش، ومسجد ريمون العائد للعهد الأيوبي والمملوكي، وأثبت من خلال دراساته وبحوثه اتساع رقعة جبال عجلون وأهميتها في العصور القديمة والمتأخرة.
ولما كانت جبال عجلون ذات بعد استراتيجي هام، وذات موقع حضاري جذاب، وذات مساحات شاسعة، ومناطق شتى، فإنها أخذت صفحات مشرقة في الحضارات الإنسانية المتعاقبة، ونالت اهتمامات بالغة في كل المجالات التاريخية والعسكرية والسياسية والحضارية، وكانت مسكناً مريحاً لكثير من الشعوب والأجيال، حيث بنيت فيها المدن التي محيت آثارها، وشيدت على أرضها العمائر التي طمست معالمها.
وجبال عجلون ذات تضاريس جميلة، وجغرافية مميزة، وتربة طيبة، وهواء عليل، وسماء صافية، وشموس مشرقة، وأمطار غزيرة، وبساتين وارفة، وأرزاق طيبة، وأشجار سحرية، وثمار زاكية، وألوان زاهية، وتلال مشرفة، وعيون كثيرة، وأودية انسيابية، وقد أطنب الكتاب في ذكرها، وأحب الشعراء عيشها، وعشق العظماء تلالها، وأثنى الآكلون على ثمارها وطعامها.
وكانت الجبال مقصد القوافل المارة والحالة، تحمل معها الأرزاق والأطياب، فقد ذُكر أن القافلة التجارية التي اشترت يوسف عليه السلام كانت مقبلة من بلاد عجلون في طريقها إلى مصر، تحمل معها الكثيراء والبيلسان الذي نبت في جبال عجلون بكثرة يومئذ ثم انقطع نهائياً، والبيلسان كان يستعمله المصريون في تحنيط موتاهم، وهو عبارة عن شجر ساقه ناعمة وأوراقه صغيرة، يخرج من سوقه رائحة عطرية(10).
وقد كانت الجبال قديماً وحديثاً خضراء ذات بساتين وارفة، وأشجار كثيفة، ينطبق عليها جنان الدنيا، -لو أنها استغلت استغلالاً طيباً-، إذ الوصف العام للجبال على ألسنة القدماء والمحدثين الشموخ والخضرة، وعند النظر في خريطة الأردن من الناحية الزراعية نجد أن جبال عجلون كانت تشكل الجزء الأكبر وذلك حسب تقسيمها القديم، سواء في الثمار الناتجة أو في المساحات المزروعة، كما أنها تشكل قطاعاً واسعاً من قطاعات البلاد الشامية التي كانت تستقبل القوافل التجارية العربية المنطلقة من ارض الحجاز إلى الديار الشامية ضمن رحلاتها السنوية، ثم تقوم بتزويدها بالثمار الشامية.
هذا وقد ورد في كتب السيرة النبوية أن أبا جهل عيّر المتبعين للرسول عليه الصلاة والسلام يوم الهجرة بقوله –إن محمداً يزعم أنكم إن تابعتموه كنت ملوك العرب والعجم، ثم بعثتم من بعد موتكم فجعلت لكم جنان كجنان الأردن(11). وهذا الخبر ذو دلالة عميقة على العمق الحضاري والزراعي الذي شهدته مناطق الأردن في تاريخ صدر الإسلام، بل وفي أيام العرب الأولى، فلقد أتى أبو جهل إلى الديار الأردنية عبر رحلاته إلى الديار الشامية، ورأى جنانها وذاق من ثمارها الطيبة، حتى دفعه ذلك الانطباع الرائع عن حضارة الأردن إلى زعمه أن الجنان التي يسمع عنها من رسول الله صلى الله عليه وسلم المبعوث ويعد بها أصحابه كجنان الأردن التي شهدها، وإذا تأكد هذا المعنى فإن جبال عجلون شاركت الأردن في ذلك الوقت في جنانه الوارفة، وخيراته المباركة، وأرزاقه الغزيرة، كما شاركته في بقية حضارته وذكرياته.
كما كانت الجبال تحوي بعض المعادن فقد ذكر الأستاذ لانكستر هاردنج في كتابه –آثار الأردن- أنه من المحتمل أن مناجم الحديد في تلال عجلون إلى الغرب من جرش كانت تستغل وتساهم في ازدياد الثروة –لمدينة جرش-، حتى أن أحد الكتاب العرب في القرن الثالث عشر بعد الميلاد ذكر أنها كانت مشهورة بصناعة المدى الدقيقة(12).
3- مدن وقرى جبال عجلون:
وعلى هذا فإن جبال عجلون حسب التقسيم المعاصر والمسماة بمحافظة عجلون تضم المدن والقرى الآتية: عجلون، كفرنجة، عنجرة، صخرة، عين جنة، عبين، الهاشمية، حلاوة، الوهادنة، عرجان، عبلين، باعون، أوصرة، راسون، الطيارة، محنا، اشتفينا، رأس منيف، صنعار، المرجم، سامتا، دير الصمادية الشمالي والجنوبي، بلاص، السفينة، راجب، الساخنة، الجبل الأخضر، الزراعة، الشكارة، الفاخرة، العامرية، الصفصافة، الحرث، عين البستان، عصيم، شين، أم الينابيع، خلة السمراء. وهناك مناطق وتسميات أخرى، وأثبت خريطة المحافظة على النحو الآتي:
وقد يدل كل اسم من أسماء المدن والقرى، وكل اسم من أسماء المناطق والجبال والأودية على حدث تاريخي معين، أو طبيعة خاصة لذلك المسمى، وكما عرفنا سبب تسمية عجلون فمن الضروري التحدث عن سبب التسميات الأخرى للبقية ما أمكن.
فمدينة كفرنجة وكما ذكر الأستاذ مصطفى الدبّاغ تشير الدلالات إلى أن سبب تسميتها يعود إلى كلمة الإفرنج، ذلك أن عز الدين أسامة أحد قواد صلاح الدين الأيوبي لما بنى القلعة كان قد وضع فيها أسرى من الصليبيين –الإفرنج-، ثم أسكنهم فترة من الوقت في وادي كفرنجة، كما أنه كان يستخدم بعض الأسرى الصليبيين الذين جلبهم معه إلى جبال عجلون في عملية نقل الحجارة من المناطق المجاورة للقلعة، وبالأخص المنطقة الجنوبية(13) وكلمة الإفرنج وكلمة كفرنجة كلمتان متقاربتان، وقد تعود التسمية إلى أن خروج الإفرنج المعتبرين كفاراً من القلعة إلى وادي كفرنجة يعد نجاة وسلامة لهم، فأصبحت الكلمة وكأنها كفار نجوا ثم اختصرت الكلمة إلى كفرنجة، وبالعودة إلى معنى الكفر –بفتح الكاف وتسكين الفاء- في معاجم اللغة العربية(14) تبين أن من معانيها القرية الصغيرة، والخشبة الغليظة القصيرة، وكذلك القبر والتراب، وإذا علم أن ذلك الوادي سكنه الإفرنج مأسورين أثناء انتصارات صلاح الدين فيمكن الجمع بين تلك المعاني والأحداث بأن ذلك المكان بمثابة قرية صغيرة للإفرنج، أو بمثابة قبر لهم، أو قد يكون المسلمون استخدموا مع الإفرنج أثناء أسرهم في وادي كفرنجة الخشبة القصيرة.
وإذا كانت تسمية مدينة كفرنجة أخذت من حدث تاريخي مرت به المدينة, فإن بعض المناطق أخذت تسميتها من طبيعتها, وما يجري فيها, وقد كانت التسمية بالعيون والأودية تسمية ضرورية مأخوذة من الواقع, فكانت تسميات وادي اليابس, ووادي كفرنجة, ووادي راجب, وكانت تسميات عنجرة, وعين جنة, وعين البستان, وعين أم الجلود, وعين التيس, والعين البيضاء, وهكذا.
فتسمية عنجرة يظن أنها تسمية مركبة من معنى العين الجارية, أو العين السائلة(15) على اعتبار كثرة العيون الجارية في منطقة بلدة عنجرة الحالية.
وكذلك التسمية بالنسبة لبلدة عين جنة, نسبة إلى عيون الجنان والبساتين, على اعتبار أن معنى كلمة جنا أي أقبل وغطى, فهي إما أن تكون التسمية عيون الجنان, أو العيون المغطاة بالخيرات والبساتين, ويعود تاريخ اسم بلدة عين جنا إلى ما قبل سبعمائة عام, إذ ورد اسم البلدة في كتاب البداية والنهاية لابن كثير المتوفى عام 774هـ, وذلك ضمن أحداث 762هـ(16).
ووادي اليابس نسب إلى رجل اسمه يابس(17)، وليس لعدم صلاحيته للزراعة, أو لانعدام الخضرة فيه, وتذكر السين في التوراة شيناً، فيقال فيها: وادي اليابيش(18)، ووادي كفرنجة نسبة إلى بلدة كفرنجة، ووادي راجب نسبة إلى بلدة راجب، ووادي جنا نسبة إلى بلدة عين جنا، ووادي الجود نسبة إلى الجود وكثرة المياه، وهكذا في تسمية كل بلدة أو واد ٍ.
ويمكن الاستعانة بالمعاجم اللغوية لمعرفة مدى دلالة الأسماء الحاضرة، بالإضافة إلى دلالة طبيعة المنطقة المسماة، فبلدة راجب مثلا بردّها إلى الفعل الثلاثي رجب الذي يأخذ معنى فزع أو خاف أو عظم أو هاب, وبتفخيم الحرف الثاني من الفعل الثلاثي الذي يأخذ معنى عظم أو دعم أو سوّى(19)، يكون المعنى العام للبلدة هو البلدة المفزعة أو المعظمة أو المهابة أو المدعمة أو المسواة المنسقة، وإذا علم أن بلدة راجب كانت بلدة عامرة في القرن الثاني قبل الميلاد في العهد اليوناني وتعرف باسم بلدة راجابا، وتقوم عليها مدينة عماتوس اليوناني(20)، فيمكن الأخذ بسبب تلك التسميات الواردة في المعاجم اللغوية، فهي على هذا التاريخ كانت بلدة معظمة ومهابة عند اليونانيين، كما كانت مدينة جميلة منسقة مرتبة، وكل هذا إذا جزمنا بأن التسمية أخذت من ذلك التاريخ اليوناني القديم، لكنني أضيف احتمالاً آخر فيما إذا وردت التسمية متأخرة عن ذلك التاريخ، على اعتبار أن اليونانيين كانوا أصحاب عقائد فاسدة وأعمال شريرة فوقع عليهم العذاب وطمست معالم المدينة، مما أدى إلى وقوع الفزع والخوف، وظهور هذه التسمية.
وتسمية الزراعة بذلك نسبة إلى كثرة المياه وصلاحية الأرض للزراعة، وتسمية الساخنة نظراً لوقوعها أمام أشعة الشمس خاصة في أيام الشتاء القارصة، حيث يكون الجو فيها ساخناً، إذ إنها محمية من الرياح من كل الجهات ومفتوحة على الهواء القادم من الأغوار.
أما قرية السفينة فهي تشكل من بعد للرائي، منظر سفينة وبالأخص عند رؤيتها من الجهة الشمالية الشرقية، وقرية بلاص قد تكون أخذت من البلاصي الذي يعني جرة ذات عروتين تستعمل في نقل الماء وغيره، أو من معنى تبلص الشيء طلبه في خفاء، وبلاص أيضاً قرية في صعيد مصر(21).
ومنطقة شمسين الواقعة جنوبي بلدة عنجرة نسبة إلى ظهورها أمام الشمس، ومنطقة الحنيش المجاورة لها يحتمل نسبتها إلى كثرة الحيات فيها التي تظهر أيام الصيف، أما باعون فيقال بأن أصل الباء ميم، والكلمة ماعون، والمعنى ماعون الذهب، وقد ورد أن سبب تسمية باعون حسب ما أورده المقريزي يعود إلى اسم راهبة كان لها دير في تلك المنطقة(22)، ثم أزيل وعملت القرية مكانه.
وقرية عرجان قد تكون التسمية أخذت من العريج بمعنى المرتفع العالي، أو العرجون بمعنى العنقود، أو العروج بمعنى الصعود والارتقاء(23) وهذه المعاني محتملة إذا أخذ بالاعتبار ارتفاعات الجبال وشدة انخفاض وادي اليابس مع وجود الأشجار والبساتين، كما قيل بأن التسمية أخذت من جماعة الجان على اعتبار أن معنى العر الجماعة، لكن في معاجم اللغة العر الشاطئ، وقد يكون المعنى أخذ من سكنى الجان على عر الوادي أي شاطئ وادي اليابس، كما قيل أيضاً بأن أول ساكن للبلدة كان أعرج.
وأما قرية راسون، فتسمى في الكتب الجغرافية والتاريخية القديمة بريسون، إذ ذكرها ياقوت الحموي المتوفى عام 626هـ في كتابه –معجم البلدان(24) بذلك، ويعود تاريخ التسمية إلى ما قبل ثمانمائة عام.
وقرية اشتفينا لعلها أخذت من معنى الأمطار النازلة على التلال والبساتين، ويرجح الأستاذ مصطفى الدباغ التسمية بقوله: لعلها تحريف لـ (شاوتفين) السريانية بمعنى الشركاء والمرابعين(25).
هذه لمحة موجزة مختصرة عن طبيعة الجبال وقراها يظهر من خلالها تقسيم المنطقة قديماً وحديثاً، وتسميتها بتلك التسمية، مع حديث عن القرى والأمكنة ودلالتها وتواريخها، وقد أغفلت ذكر تسميات بعض المناطق مكتفياً بالمعلومات السابقة نظراً لعدم توصلي في هذه الدراسة إلى معلومات.
ثانياً- الشهرة الطبيعية والدّينية والتاريخية لجبال عجلون:
4- أحداث ومعالم حضارية في جبال عجلون:
جبال عجلون ذات تاريخ حضاري عريق، شهدت عصور الحضارة الأولى، وسطرت كلمات مشرقة على صفحات التاريخ القديم والحديث، وشهدت أحداثاً جساماً، ومعالم حضارية بارزة، وأياماً وليالي متنوعة، وأثبتت تاريخاً مجيداً كما أثبتت البلدان والمناطق تاريخاً مجيداً، واحتفظت بذكريات كما احتفظ غيرها بذكريات، وكان لها صولة وجولة في أحداث الزمان الغابر.
ولما كانت جبال عجلون بقعة من بلاد الشام وبقعة مجاورة لبيت المقدس فإن تاريخها مرتبط بتاريخ هاتين المنطقتين ارتباطاً وثيقاً، وأن حضارة هاتين المنطقتين أيضاً هي حضارة لهذه الجبال، فكما مرت البلاد بالعصور البشرية والحضارات الإنسانية فإن جبال عجلون لها مكان من تلك الحضارات، ولها حلقة من حلقات العصور الماضية.
ولقد تبين أن تسمية الجبال بدأت أولاً بجلعاد ثم بعجلون، وأن التسمية الأولى، أطلقها الأموريون، ثم أخذها عنهم اليهود، فذكرت بالتوراة، وتدل التسمية أن الأموريين الذين وجدوا قبل اليهود كانوا في منطقة الجبال أو قريباً منها، وإذا عرفنا أن التسمية تؤخذ من الواقع، وأن الجبال ذات مساحات شاسعة نستطيع القول بأن حضارة الأموريين كانت من بين حضارات جبال عجلون.
وتذكر التوراة أن مقاتلة وقعت بين العمونيين والإسرائيليين في وادي يابيش (وادي اليابس) بجبال جلعاد(26)، وكانت المقاتلة في قرابة 1150 ق.م، والحكاية تدل أن حضارة العمونيين من بين حضارات جبال عجلون أيضاً، وإذا كانت الحادثة التي ذكر فيها اسم جلعاد الأموري قبل 1150 ق.م، فإن حضارة الأموريين كانت قبل هذا التاريخ بفترة، على اعتبار أن التوراة كتبت بعد وفاة سيدنا موسى عليه السلام، وكان الاسم جلعاد يتردد في أوساط الإسرائيليين.
وفي معرض الحديث عن هذه المقاتلة لا بد من التأكيد على أن الإسرائيليين طمعوا في جبال عجلون، ودخلوا في معارك ضارية مع سكان البلاد، إلا أن شجاعة أهلها الذين كثر وجودهم بمنطقة وادي اليابس صد هجومهم، ورد أطماعهم، حتى أن رواية التوراة – مع اعتقادنا بالتحريف المؤكد- ذكرت أن العمونيين أرادوا إخضاع أهل يابيش، وتمت مخادعة العمونيين بذكاء أهل الوادي، وانتهت بطرد الطرفين المتقاتلين، وهما العمونيون والإسرائيليون، وكون التوراة ذكرت اسم اليابس أو جلعاد لا دلالة له قطعياً على سكناها، بل إن أخبار التوراة تؤكد عدم سكناهم، لكن وجدت أطماع لم تتحقق.
وعلماء الآثار والتاريخ يقسموا المراحل التي مرت بها الحضارات إلى عدة عصور(27)، ومنها العصر الحديدي الأول الذي يبدأ من 1200-900 ق.م، وهي نفس الفترة التي حصلت فيها المقاتلة، وهذا يعني أن العمونيين كانوا في العصر البرونزي الذي يسبق العصر الحديدي.
ولا نظلم التاريخ إن قلنا بوجود حضارات في جبال عجلون في العصر النحاسي الذي يبدأ بأربعة آلاف عام قبل الميلاد، لأنه الحضارة تأتي على أنقاض حضارة، وأن الأمم اللاحقة تعيش في مساكن الأمم السابقة، ثم إن طبيعة الجبال تجذب أفئدة الشعوب التي تعيش على الزراعة والصيد، وتأوي إلى الكهوف.
وبذلك تكون جبال عجلون قد مرت بالعصر النحاسي ثم العصر البرونزي ثم العصر الحديدي ثم العصر الفارسي ثم النبطي ثم العصر الهلينستي ثم العصر الروماني، ثم العصر البيزنطي ثم العصر العربي والإسلامي.
وتعد آثار جرش الرومانية أقوى دليل وأثبت برهان على وجود الحضارة الرومانية في تلك المناطق، ووجود أمم وشعوب موزعة فيها، وأن جبال عجلون حسب التقسيم القديم قد مرت بالعصر الروماني وأيضاً بالعصر الهلينستي السابق له بحضارات وشعوب.
يقول الدكتور يوسف غوانمة: ودلت الكشوف الأثرية على وجود عجلون منذ العصور القديمة، وقد تبوأت مركزاً ممتازاً في العصور التالي: الهلينستي والروماني والبيزنطي، ولدينا اكتشافات عديدة تؤكد وجهة نظرنا هذه(28).
وتذكر بعض المصادر أن الكنعانيين كانت لهم تجارة مع لبنان وفلسطين ومصر ويمرون بقوافلهم التجارية من جبال عجلون، وهم الذي اشتروا سيدنا يوسف عليه السلام بعد مقدمهم من بلاد عجلون في طريقهم إلى مصر، حيث كانوا يحملون الكثيرا والبيلسان منها، ويرجح أن الحادثة حدثت في أواسط القرن السابع عشر قبل الميلاد(29).
ومن أحداث العصر الهلينستي ما ذكر في بعض المصادر من أنه في عام 218 ق.م، كان "بطليموس الرابع" ملك مصر يحكم فلسطين والأردن، وعندما هاجمه انطيوخوس الثالث السلوقي بحملة عسكرية سريعة وسيطر على الجيل اجتاز نهر الأردن واستولى على طبقة فحل وتوغل في جبل عجلون(30).
ومما يذكر في العهد اليوناني من أن بلدة راجب كانت بلدة عامرة في القرن الثاني قبل الميلاد، وتعرف باسم راجابا(31)، كما كانت تقوم على وادي راجب مدينة عماتوس اليونانية التي تعود أيضاً بتاريخها إلى القرن الثاني قبل الميلاد، وكانت تعتبر من أجمل مدن الغور.
ويعتبر الدكتور سيلاه مرل الرحالة الغربي الذي زار شرقي الأردن عام 1876م، أن منطقة الوطن العربي واحدة من أكثر مناطق الأرض إثارة للإنسان، وقد أعطى انطباعه عنها بقوله: "تعتبر المنطقة التي تمتد من دمشق جنوباً إلى الصحراء العربية، ومن نهر الأردن وتلال عجلون والبلقاء والكرك إلى صحراء الفرات الكبرى، واحدة من أكثر مناطق الأرض إثارة للإنسان، ولكن على الرغم من ذلك لا يزور الرحالون هذه المنطقة إلا نادراً بسبب المخاطر التي تكتنفها، وفي العصور القديمة كانت مناطق الكرك والبلقاء وعجلون من أكثر المناطق خصوبة وسكاناً على وجه الأرض"(32).
ولعل ذهاب الأبنية القديمة وزوالها في المنطقة يعود كما يرجحه علماء الآثار إلى طراوة الحجر المستعمل للبناء في جبل عجلون، لأنه يتآكل مع الزمن.
5- الشّهرة الدّينيّة لجبال عجلون:
تبرز أهمية جبال عجلون ومنطقتها باعتبارها المنطقة ذات العلاقة التاريخية والجغرافية والدينية التي ترتبط مع بلاد الشام من ناحية، ومع أرض بيت المقدس من ناحية أخرى، فهي وإن لم تكن من أرض بيت المقدس تلك الأرض التي بارك الله فيها، فإنها من الأرض المحيطة به التي بارك الله فيها أيضاً، لأنها داخلة في قوله تعالى: "الذي باركنا حوله"(33)، ولذلك فهي من البلاد الشامية المباركة، والبلاد القدسية المباركة، وهي الحلقة الواصلة بين البلدين –الشامي والقدسي.
وقد تضافرت الأدلة من القرآن والسنة على بركة بلاد الشام وأرض المقدس، وذهب أكثر المفسرين إلى أن الأرض المباركة التي كرر ذكرها في القرآن الكريم هي الشام، مع احتفاظ مكة والمدينة والقدس بالقدسية والتبريك، وقد دعا الرسول صلى الله عليه وسلم بالبركة للشام ثلاثاً كما ورد في صحيح البخاري، إذ قال: "اللهم بارك لنا في شامنا، اللهم بارك لنا في يمننا"(34).
وذكر القرآن الكريم الأرض المباركة والقرى المباركة في أكثر من موضع، ويعد المقطع القرآني الذي يتحدث عن سبأ في اليمن ونعم الله عليهم من أبرز المقاطع القرآنية التي تظهر بركة بلاد الشام وحضارتها، وظهور القرى الواقعة بينها وبين أرض اليمن، كما ذكر ذلك أكثر المفسرين.
وهذا المقطع القرآني قوله تعالى: "وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنها فيها قرى ظاهرة وقدرنا فيها السير سيروا فيها ليالي وأياماً آمنين"(35).
والمعنى العام لهذه الآية الكريمة هو أن الله –سبحانه- منّ على قوم سبأ الذين كانوا يسكنون أرض اليمن بنعم كثيرة، وفضائل جمة، وأرزاق غزيرة، وجناة وارفة، وسميت بلدهم "بلدة طيبة"، كما جعل الله –سبحانه- الطريق للتجارة والسير والسفر والتنقل إلى المناطق الشمالية سهلة ميسرة، بحيث يسير الراكب ليلاً ونهاراً، لا يخاف جوعاً أو عطشاً، ولا يخشى ظالماً أو اعتداءً، ويتنقل من قرية إلى قرية، لا ينزل إلا من قرية، ولا يغدو إلا في قرية.
والمفسرون الذين فسروا القرى التي بارك الله فيها بالشام هم قتادة ومجاهد وابن عباس والضحاك وابن زيد(36)، ويكون معنى القرى الظاهرة بعدئذ القرى الواقعة بين أرض سبأ باليمن وأرض الشام، وكلمة ظاهرة تعني معاني عدة حسب آراء المفسرين، فهي تعني القرى المتصلة أو المتواصلة أو المرتفعة أو القوية الغالبة.
وأخذا من آراء المفسرين السالفة الذكر فإن القرى الأردنية في عصر سبأ التي كانت باليمن، أو بمعنى في عصر سليمان عليه السلام الذي كان بالقدس كانت قرى ظاهرة قوية، متصلة متعددة، يعمها الأمن والرخاء، ويكتنفها الازدهار الذي جعل أمم الجنوب تأوي إليه، وتعيش أيامها ولياليها أثناء سيرها في رغد وعيش، وجنان وأمان، لا تحتاج طعاماً تحمله، ولا تخشى ظالماً تقاتله.
كما ويفهم من آيات القرآن الكريم حسب آراء عدد من المفسرين فإن قرى جبال عجلون التي كانت تشغل مساحات واسعة في عصورها القديمة هي من القرى الظاهرة أو من القرى المباركة، فإن جزمنا باتصالها بالقرى الشامية فهي مباركة، وإن لم نجزم باتصالها فهي من القرى الظاهرة التي منّ الله بها على قوم سبأ مع غيرها من القرى العربية الواقعة بين اليمن والشام، ولا مانع من إرادة المعنيين معاً، فهي مباركة، وهي ظاهرة.
والمتأمل في حركة القوافل المتنقلة بين الجنوب والشمال في الأيام القديمة يؤكد أن سلسلة الجبال الأردنية كانت مزدهرة وبارزة أكثر من غيرها من المناطق الأردنية، نظراً لاحتوائها المياه الوافرة، والأشجار المثمرة، والمناخ المعتدل، ثم قربها لأرض الأنبياء ومهد الرسالات، وتعد جبال عجلون ضمن هذه السلسلة الجبلية، ويميزها عن غيرها في أنها الجبال الواقعة والواصلة بين الأرض الشامية والأرض المقدسية، وهي تأخذ البركة مع البلدين المباركين، وخاصة أنها ضمت إلى زمن متأخر الركن الشمالي الغربي من الأردن.
ثم تحدثت القصة القرآنية عن تشتت سبأ وتفرقها في البلاد بعد أن بطروا النعمة، وظلموا أنفسهم، فقالوا: "ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم وجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور"، ويذكر بعض المفسرين كما أورد ابن جرير الطبري أن الله –سبحانه- شتتهم في أرض الجزيرة العربية والبلاد الشامية، فلحقت قبيلة غسان إلى الشام، وبهذا يكون ذلك الزمن الذي مزقت فيه سبأ كل ممزق هو أول زمن ظهرت فيه الغساسنة في بلاد الشام، وهذا يعني وجود حضارات وأمم.
هذه لفتة طريفة إلى جبال عجلون الشماء، الجبال التي شمخت في السماء خضرة وعلواً، واتسعت رقعتها عبر البلاد مساحة وعمقاً، ونهلت من بركة الشام والقدس، واحتلت بعداً تاريخياً عريقاً عبر العصور الإسلامية المتلاحقة وأشرقت صفحاتها مع إشراق صفحات الفتح الإسلامي في البلدين المباركين، وكان لأرضها شرف وطء أقدام الصحابة عليها، ولأهلها شرف استقبال المجاهدين الفاتحين لها.
ويعد نزول الصحابة –رضوان الله عليهم- في جبالها مع شريط الغول الترابي أثناء خروجهم في الفتح الإسلامي مفخرة عظيمة لا تساويها مفخرة، ومنزلة عليا لا تنهض إليها منزلة، بل إن اختيار الصحابي الجليل شرحبيل بن حسنة قائداً لجند الأردن وفتحه لمدينة جرش وجبال عجلون مفخرة فوق كل المفاخر.
وهكذا كانت الجبال ذات الصلة الطيبة بالأرض الشامية والمقدسية موقعاً استراتيجياً عبر نضال المجاهدين المسلمين، ولقد ثبت تاريخياً ومن خلال المعارك الواقعة على أرض الشام وفلسطين أن جبال عجلون كانت تتعرض للمعارك الواقعة على أرض الشام أو لآثارها، كما تتعرض للمعارك الواقعة على أرض فلسطين أو لآثارها، وكانت تمثل نقطة البدء أحياناً للحروب الدائرة على أرض البلدين –الشامي والقدسي-، أو الظهر الحامي للجيوش المقاتلة، وخاصة الجيوش الإسلامية التي واجهت وقاتلت جيوش الإفرنج وقوات المغول، ولا شك أن لطبيعة المنطقة دوراً هاماً في استقطاب الحكام والجيوش، فالمنطقة جبلية زراعية واسعة، وذات مياه وافرة، وأرزاق غزيرة، كما أن ارتفاعها المشرف على المناطق المجاورة يكسبها موقعاً عسكرياً استراتيجيا هاماً، مما يساعد الجيوش طيلة أيام السنة في حروبها الطويلة.
وجبال عجلون قطعة من الأردن، وجزء ملتحم بالأرض الأردنية، وهي من المناطق الوحيدة التي تحاذي نهر الأردن من جهته الشرقية بالإضافة لمنطقة الأغوار والبلقاء والكورة، وأؤكد على كلمة نهر وكلمة الأردن، إذ أن لهما دلالات خاصة في واقع المسلمين مع اليهود في آخر الزمان وقبل قيام الساعة، ذلك أن الجبال تقع في القاطع الأوسط من نهر الأردن الذي ستكون عليه وعلى جانبيه معارك فاصلة بعد سنين طويلة وجولات عدة، بين فريقين تصارعا منذ زمن بعيد، فريق تمثل الحق وهو صاحب أرض، وفريق احتكم إلى الباطل وهو غاصب محتل.
والحديث الذي يصف المعركة في آخر الزمان ويصف طبيعة الأرض التي تشهد الصراع، ويصف الفريقين المتقاتلين قوله عليه السلام "لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهود من وراء الحجر والشجر فيقول الحجر والشجر يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود"(37)، وفي رواية الطبراني "لتقاتلن المشركين حتى يقاتل بقيتكم الدجال على نهر الأردن أنتم شرقيه وهم غربيه"(38).
ولما كانت جبال عجلون مطلة ومشرفة على بيت المقدس، ومحاذية ومقابلة لجباله وأرضه، يمكن أن يرى مَن على تلال عجلون مآذن القدس الشريف في الليلة الصافية، فإن لها في حديث آخر لرسول الله عليه السلام ميزة وخاصية تشترك معها كل المناطق المطلة والمشرفة على بيت المقدس، وخاصة في آخر الزمان الذي يقع فيه بيت المقدس تحت الأسر اليهودي، مع وجود عشاق ومحبين لزيارته ومشاهدته.
وهذا الحديث هو ما رواه البيهقي عن أبي ذر الغفاري أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في بيت المقدس أفضل أو في مسجد رسول الله؟ فقال: صلاة في مسجدي هذا أفضل من أربع صلوات فيه، ولنعم المصلى أرضه المنشر والمحشر، وليأتين على الناس زمان، ولقيد سوط، أو قال: قوس الرجل، حيث يرى بيت المقدس خير له، أو أحب إليه من الدنيا جميعاً(39).
وإذا نظرنا في إشارات الأدلة الشرعية والآثار المروية بخصوص الأرض الشامية والأرض المقدسية، وبخصوص المعركة لأجل بيت المقدس، ثم نظرنا إلى طبيعة الأراضي التي ستشهد تلك المعركة، فإننا نستطيع أن نضع بعض النقاط في العلاقة بين المعركة والأرض التي ستشهدها.
ومن أبرز النقاط: أن المعركة بين جند الإسلام وجند اليهود معركة قائمة لا تنتهي، ولها جولة قادمة أكيدة ثابتة على نهر الأردن، وبهذه التسمية، وعلى أرضه بالذات، وستشهد منطقة النهر المعركة لا محالة، لأنها وردت على لسان الصادق المصدوق، إذ أن المعركة بين أمة تقاتل غربي النهر وأمة تقاتل شرقيّه، وأن منطقة جبال عجلون مع غيرها من المناطق الواقعة شرقي النهر ستشهد تلك المعركة، لكن قد يختفي سر المعركة إلى حين أن يظهره الله تعالى.
وإذا كانت المعركة قادمة لا محالة، فإن جند الحق قادمون قطعاً، لا تبديل لقدومهم ولا تحويل، وأن جزأي المعادلة لا يمكن التلاعب بهما، وإن طال الزمن أو قصر، وتعالت صيحات الباطل ودوّت ، وإن بشائر النصر آتية –بإذن الله- ولو تلبدت كل السماء بالغيوم القاتمة السوداء، وأن طلائع الخير محققة –بإذن الله- ولو اسودّت كل الصفحات البيضاء، وسيشهد بيت المقدس وأكنافه أمراً لا قبل لأحد به ليتحقق النصر المحقق، إذ أن الطائفة الظاهرة هي ببيت المقدس وأكنافه.
وتشير الأحاديث السابقة إلى أن بيت المقدس سيقع أسيراً بالأيدي اليهودية، حتى يتمكن اليهود في البلاد وتصبح لهم دولة وأمة، وحينئذ يخرج أهله منه، ويتمنون هم والناس لو أنهم يأتون ذلك البيت، أو يشاهدونه من على سوط من أرض، وقد وقعت هذه الإشارة النبوية في هذا العصر، بحيث تعد المناطق الشرقية لنهر الأردن والمقابلة لبيت المقدس من المناطق الخيرة والمفضلة في أنها يرى منها بيت المقدس، ومن بين هذه المناطق جبال عجلون.
6- شهرة جبال عجلون منذ الفتح الإسلامي وحتى نهاية العهد العثماني:
ثم جاء الفتح الإسلامي إلى الأردن بقيادة شرحبيل بن حسنة، الذي فتح مدينة جرش وجبال عجلون، فكانت الصورة المشرقة البيضاء، والوقفة المشرفة الحسناء، إذ ازدادت الجبال بركة مع بركتها، وجمالاً مع جمالها، وإشراقاً مع إشراقاتها، وتشرفت الجبال حينئذ بوطء أقدام الصحابة الفاتحين عليها، وتأكدت إسلاميتها منذ ذلك الفجر الساطع المضيء، حتى أصبحت مدخلاً للجيوش الإسلامية نحو البلاد الشمالية، وعوناً وسنداً للمقاتلين على أرض اليرموك وغير اليرموك.
وما أجمل التاريخ عندما ينتمي لأنبياء ورسل! وما أجمل صفحات البلاد التي تضم رفاتهم! أو تضم تربة وطأتها أقدامهم، وأن الصدر ينشرح عندما يقرأ الإنسان أو يسمع أن نبياً أو رسولاً أو صحابياً زار بلداً له فيها تاريخ وذكريات، ولقد كانت بلاد الشام وأرض فلسطين من بلاد الله التي احتضنت أنبياء مرسلين، واستقبلت صحابة فاتحين، وكان لجبال عجلون نصيب من أيام الصحابة المباركة أثناء فتحهم للبلاد.
وكان لوادي كفرنجة شرف نزول الصحابي الجليل النعمان بن بشير الأنصاري فيه(40)، حيث نزل فيه بعد خروجه من أرض الحجاز ومقدمه إلى بلاد الشام وأرض الفرات، إذ عينه معاوية بن أبي سفيان أميراً على الكوفة ثم أميراً على حمص.
كما تشرف غور الوهادنة بسكنى القائد الشجاع أبي عبد الرحمن القيني أحد مشاهير قبيلة بني ألقين(41)، الذين سكنوا في غور الوهادنة، وفي المنطقة الغربية من الوهادنة الحالية، وكانوا قد خرجوا من أرض الجزيرة العربية إلى الأرض الشامية والفلسطينية، وقد كان أبو عبد الرحمن القيني أحد قادة أبي عبيدة الذين قاتلوا معه يوم أجنادين.
وهكذا كانت تجد القبائل العربية الخارجة من أرض الجزيرة العربية في جبال عجلون مسكناً مريحاً وبلاداً خيرة، وطقساً جميلاً، إذ جمعت الجبال أمطار الشتاء، وحرارة الصيف، وهواء الخريف، وثمار الربيع، وكانت تجد القبائل فيها المياه الوافرة في مناطقها المتعددة، والأرزاق الغزيرة في أيام كثيرة.
وقد تعاقبت ولايات العصور الإسلامية على جبال عجلون ضمن تعاقبها على بلاد الشام وأرض فلسطين، بدءاً من العهد الراشدي وانتهاءً بالحكم العثماني، ولذلك يعد تاريخ تلك المناطق تاريخاً لهذه الجبال، لكن كانت الولايات تنقسم أحياناً أو تقسم بين القادة أو الولاة، فكانت مدينة جرش وما حولها زمن خلافة أبي بكر تحت ولاية عبد الله بن ثور(42)، وكانت ولاية الأردن لمعاوية بن أبي سفيان زمن عمر وعثمان، ولما قتل عثمان آثر معاوية مقاتلة علي حتى دانت له بلاد الشام(43).
وخضعت الجبال مع غيرها من المناطق للحكم الأموي، ثم للحكم العباسي، ثم للحكم العثماني، وتعاقب الأمراء والحكام عليها كتعاقبهم على غيرها، وقد يصعب الفصل بين منطقة ومنطقة في الحديث عن العصور المتعاقبة على المناطق، نظراً لتداخل تقسيمات المناطق من عهد إلى عهد، ولسرد الأحداث دون تسمية الأماكن المرتبطة بها، إلا في بعض الأحيان، أو أن تذكر الأماكن الصغيرة ضمن الأماكن الكبيرة، مكتفياً العالم أو الكاتب أو المؤرخ ذكر البلد بشكل عام، فمثلاً قد يذكر شخص أنه وال على الأردن دون سرد الأماكن التي تبعت له.
ولما كانت هذه الدراسة مختصرة، وكان هذا المبحث صفحات من تاريخ، فقد اكتفيت بعرض بعض الصفحات المشرقة التي يمكن من خلالها إلقاء نظرة على الجبال، مع أن التأني والتقصي في بطون الكتب والمراجع يثري الدراسات والبحوث.
فممن ولي الأردن ومن بينها الجبال الأمير القاضي عبادة بن نسي الكندي(44)، ويعرف بعبادة الأردني، نسبة إلى توليه حكم الأردن فترة من الزمن، إذ ولاه عبد الملك بن مروان وعمر بن عبد العزيز الحكم في الأردن، فكان عبادة الأردني عالماً محدثاً، وأميراً قاضياً، روى عن العلماء، وروى العلماء عنه، وكان سيد أهل الأردن.
وتعد حياة الأمير العالم محمد بن عبد الملك في بلدة راسون صورة مشرقة من حياة الأمويين في جبال عجلون، إذ ذكر ياقوت الحموي في كتابه – معجم البلدان(45) تلك الصورة بقوله: ريسون قرية بالأردن كانت ملكاً لمحمد بن عبد الملك، وقد كان هشام الخليفة الأموي حاكماً على بلاد الشام ومصر، وأراد أن يولي محمداً على مصر، لكن محمد اشترط على أخيه أنه إن أمره بخلاف الحق تركها، فقال هشام: لك ذلك. فلما ولي مصر شهراً واحداً أتاه كتاب من الخليفة لم يعجبه، فترك مصر وعاد إلى ضيعته راسون، وكتب إلى أخيه: ابعث إلى عملك والياً، فكتب إليه أخوه هشام:
أتترك لي مصراً لريسون حسرة ستعلم يوماً أي بيعيك أربح
فقال محمد: إنني لا أشك أن أربح البيعين ما صنعت.
وتدل هذه الحكاية التاريخية على أبعاد كثيرة عند الأمير الأموي، وعلى أبعاد كثيرة في تاريخ جبال عجلون، فهي تدل على تقوى الأمير الأموي وورعه، وحبه للحق والدفاع من أجله، وهو يقدم العدل والحق على الحكم والسلطان، ويعزف عن الظهور والشهرة ما دام أن في الظهور والشهرة ظلماً للناس وحكماً بخلاف الحق.
ولعل من لطائف الأخبار وأنت تقرأ في صفحات التاريخ الغابر عن جبال عجلون ما يبعث في النفس بهجة وسروراً، ويزيدها أنساً وراحة، كيف يترك الأمراء كراسي العرش، والنزول في القصور المشيدة! ليعيشوا في أحضان الجبال تحت ظلال الأشجار وعلى مشارف الأنهر والجداول، يعشقون جمال الطبيعة، ويخاطبون نجوم السماء ويستنشقون الهواء العليل النقي، ويستمتعون بالصفاء والنقاء، ويتسامرون تحت أنوار القمر، وأمام الخيام السحرية، وكأنهم نبت من أنبات تلك الجبال الجميلة، لكنهم نبت متحرك متنقل، ناطق ناظر، يحاكي الطبيعة باسم كل الطبيعة، وهكذا عاش النبت الأموي الجميل، الأمير العالم الزاهد، في جبال عجلون، وفي ظلال أشجار بلدة راسون، بعيداً عن مطاحنات السياسة والحكم، وغدر القريب والبعيد، وسلطان الدنيا وهوانها، رغم الخيرات في بساتين غوطة الشام، والنعيم على شواطئ النيل.
أما دلالة هذه الحكاية التاريخية على أبعاد تاريخ منطقة عجلون فهي احتضان جبال عجلون للأمراء العلماء، وهي دلالة تاريخية على صفاء الأجواء الدينية لمنطقة عجلون، وأنها تساعد النفس في نشوتها والروح في انطلاقاتها والعقل في تحرراته، فإن الأمير العالم قد وجد في بلدة راسون صفاء خاصاً للحياة، ولوناً معيناً في العبادة والعلم، مع أن البلاد واسعة، ومملكة الأمويين تضم مناطق شتى، وقد تشربت نفسه حب البلاد، فرفض العيش في مصر أرض النيل، ورد على أخيه لما وصف بلدة راسون بالحسرة بأن عيشه فيها هو الربح المحقق، وهذا الاختلاف ناشئ عن اختلاف نظرة الرجلين للحياة والبلدان.
ولما كان هذا المبحث ما هو إلا صفحات فإنني أكتفي بها، مع أن العصور الإسلامية لمختلف الولايات والعهود قد مرت على الجبال، لأسلط الضوء بعض الشيء على العصرين الأيوبي والمملوكي، نظراً لبناء القلعة ونشاطها فيهما، مع عرض بعض الأحداث التي مرت بالجبال خلال ذلك العهدين، ولو لم تكن ذات صلة بهما.
لقد لعبت جبال عجلون تاريخاً بارزاً في عصري الأيوبيين والمماليك(46)، وكانت المنطقة ذات بعد استراتيجي من كل النواحي لدى هاتين الدولتين، إذ سجل التاريخ لهم بصمات واضحة على صفحات تاريخ الوطن العربي، ولموقع جبال عجلون المجاور لبيت المقدس، والمتحكم بكثير من الخطوط العسكرية والاقتصادية فإنها لعبت دوراً فعالاً في الأحداث والوقائع، وأغرت كثيراً من العظماء والقاصدين.
وكانت جبال عجلون تخضع لأحداث الزمان من مهادنة أو محاربة، وقد تعد أحياناً متميزة عن بقية المناطق المجاورة، فهي تعد نقطة واقعة بين البلاد الفلسطينية وما فيها من حضارات وأمم والبلاد الشامية وما تعاقب عليها من حكام وأمراء، وبلاد دجلة والفرات وما عاش عليها من حكام ودول، ومفاتيح أرض الحجاز وما يأتيها من حجيج، وكأنها زنبرك مشد لجهات عدة، أو بمعنى آخر مركز قوى لملوك وأمراء متحالفين أو متحاربين.
ولما كانت أرض القدس مملكة لاتينية فقد تمت موادعة بين ملك القدس بلدوين وبين ظهير الدين صاحب دمشق على نتاج الأراضي في جبال عجلون، وتقسيمها أثلاثاً(47)، فكان الثلث الأول لحكام دمشق، والثلث الثاني للإفرنج في مملكة اللاتين، والثلث الأخير لأصحاب المناطق، وبقيت هذه الموادعة من سنة 502هـ: 1108م. ولغاية سنة 583هـ: 1187م، وذلك أثر انتصار صلاح الدين في حطين فتكون جبال عجلون قد عاشت أيام الهدنة المقترنة بدفع الغلات قرابة ثمانين عاماً، وهي فترة زمنية طويلة يقع فيها الفلاحون المزارعون تحت الظلم والجور إذا ما قيست ببقية المناطق وبقية الفترات الزمنية الأخرى.
وقد كان يقصد ملك الإفرنج من هذه المهادنة تأمين حكام دمشق من التفكير في أي تحرك عسكري نحو بيت المقدس، أو في أي خاطر لضم جبال عجلون المجاورة لبيت المقدس، ثم ليتفرغ بلدوين للتوجه إلى المنطقة الجنوبية من الأردن، وليقوى تحصينه على سواحل البحر الأبيض، فيكون قد عزل المنطقة الشمالية عسكرياً، وهذه الخطة التي رسمها بلدوين ونفذ جزئيات منها تدل على أن جبال عجلون يومئذ ذات أثر فعال في التحركات العسكرية وفي المهادنات السياسية، فلو تحرك ظهير الدين صاحب دمشق نحو جبال عجلون ورفض المهادنة لأخرجت الأحداث صفحات تاريخية غير التي أخرجت.
إلا أن ابن كثير يذكر من أحداث سنة 566هـ، تغلب الإفرنج على سواحل الشام بكامله حتى أخذوا القدس ونابلس وعجلون والغور وبلاد غزة وعسقلان وكرك والشوبك(48).
لكن في أواخر فترة المهادنة وعلى أعقاب سوء الحالة الاقتصادية في مملكة اللاتين، ونشوب النزاع الشديد بين أمرائهم، وتحركات صلاح الدين السياسية الذكية، أصبحت جبال عجلون تحت إمرة عز الدين أسامة الجبلي الذي أرسله صلاح الدين الأيوبي ليبني قلعة حصينة تقابل قلعة كوكب الهوا الصليبية أو تساعده في مهاجمة قلعة الكرك، وأصبحت جبال عجلون لإمرة عز الدين أسامة بعد أن كانت تابعة للحكم الفاطمي في مصر، وبقيت تحت إمرته إلى ما بعد معركة حطين حيث أضيفت إليه قلعة كوكب الهوا، ولغاية سنة 608هـ: 1211م، وكان عز الدين ينتقل بين إقطاعاته وبين بقية المناطق وبالأخص مصر.
وبعد وفاة صلاح الدين الأيوبي توزعت البلاد على أفراد البيت الأيوبي، فكان ولده الملك الأفضل نور الدين علي في دمشق، وولده الملك العزيز عثمان في مصر، وولده الظاهر غياث الدين غازي في حلب، وكان أخوه الملك العادل في الكرك والشوبك وبعض الإقطاعات في مصر، وبقي عز الدين أسامة نائباً على قلعتي عجلون وكوكب الهوا، لكن شب النزاع بين أفراد البيت الأيوبي، وبدأت الوحشة بين الملك الأفضل والملك العزيز، حتى توجه العزيز من مصر إلى دمشق لكنه لم يفلح، ويعزو المقريزي أن توجه العزيز كان بنصيحة من الأمير عز الدين أسامة، إذ قال له: "اقصد البلاد فإنها في يدك، قبل أن يحصل في الدولة من الفساد ما لا يمكن تلافيه"(49).
ثم دارت الأيام وأصبحت دمشق ومصر بيد الملك العادل، وفي هذه الإثناء اتهم عز الدين أسامة بالخيانة ونسب إليه مكاتبة الملك الظاهر غازي صاحب حلب، ثم انتهت النيابة للمعظم بن الملك العادل، ويصف لنا أبو شامة المقدسي كيفية الانتقال إليها في كتابه – تراجم رجال القرنين(50) بقوله: إذ اجتمع العادل وأولاده الكامل والفايز والمعظم بدمياط، وكان أسامة بالقاهرة قد استوحش منهم واتهموه بمكاتبة الظاهر صاحب حلب، وأن المعظم وجه له كتاباً إليه وأجوبة، فخرج أسامة من القاهرة كأنه يتصيد فاغتنم اجتماع الملوك بدمياط، وساق إلى الشام في مماليكه يطلب قلاعه وهما كوكب وعجلون، وذلك يوم الاثنين سنة 609هـ، فأرسل صاحب بلبيس الحمام إلى دمياط يخبرهم بذلك، فقال العادل: من ساق خلفه فله أمواله وقلاعه، فقال المعظم: أنا، وركب من دمياط يوم الثلاثاء غرة رجب، فكان صباح يوم الجمعة في غزة، حيث ساق مسيرة ثمانية أيام في ثلاثة أيام فسبق أسامة، وأما أسامة فإنه انقطع عنه مماليكه ومن كان معه، وبقي وحده وبه نقرس فجاء إلى بلد الداروم، وكان المعظم قد أمسك عليه من البحر إلى الزرقاء، فرآه بعض الصيادين في برية الداروم فعرفه فقال له: انزل، فقال: هذه ألف دينار وأوصلني إلى الشام، فأخذها الصياد وجاء رفاقه فعرفوه أيضاً فأخذوه على طريق الخليل ليحملوه إلى عجلون فدخلوا به القدس يوم الأحد سادس رجب، جاء بعد المعظم بثلاثة أيام، فقال له المعظم: ما كنت خائفاً إلا أن تصادفني في الطريق غلمانه فيقتلوني، ثم أنزل أسامة في صهيون، وبعث إليه بثياب وطعام ولاطفه وراسله، وقال: أنت شيخ كبير وبك نقرس وما يصلح لك قلعة سلم إلى كوكب وعجلون، وأنا أحلف لك على مالك وملكك وجميع أسبابك وتعيش بيننا مثل الوالد، فامتنع وشتم المعظم، فلما يئس المعظم منه بعث به إلى الكرك فاعتقله، واستولى على قلاعه وأمواله وذخائره وخيله، فكان قيمة ما أخذ منه ألف دينار(51).
وهذا التقاتل الشديد والنقاش المرير بين أميرين على قلعة عجلون دلالة على أهميتها عسكرياً واقتصادياً واستراتيجياً، ودلالة أيضاً على الحب المطبوع في قلب عز الدين أسامة لقلعة عجلون وجبالها وأشجارها وأيامها ولياليها، ودلالة على أثر القلعة العظيم عند الملك المعظم، ولكن الحظ لم يحالف عز الدين فتوفي في قلعة الكرك، فشاءت حكمة الله –سبحانه- أن يموت في قلعة بعد أن أرسى من أجل الحق قلعة.
وفي أثناء حكم الملك العادل لمصر، وتبعية جبال عجلون لابنه الملك المعظم، تعرضت البلاد لحملة جديدة من الإفرنج، وبدأت من عكا ثم بيت المقدس ثم مصر وبلاد الشام مما جعل الملك العادل يسرع بجيشه إلى الرملة ونابلس، وأخيراً نزل في بيسان ونزل الإفرنج على عين جالوت، لكن عدم تكافؤ جيش الملك العادل مع جيش الإفرنج البالغ خمسة عشر ألفاً دفع العادل للتوجه إلى جبال عجلون(52) وذلك سنة 614هـ، ثم حوران ثم مشارف دمشق حتى استولى على أملاك الناصر داود بن الملك المعظم، وحاول تخويف الملك الكامل، لكن الكامل وابن أخيه الناصر تحالفاً ضده وضد ابنه الملك الصالح عماد الدين إسماعيل صاحب بصرى الذي استلم الولاية من أخيه الأشرف، وخلال تحركاتهما قام الأمير ظهير الدين بن سنقر الحلبي أحد أتباع الملك الناصر بمكاتبة نائب الأشرف (53)المقيم بقلعة عجلون، ودفع له أربعين ألف درهم وخلعة ومركوباً وقماشاً ليسلم القلعة، فوافق على ذلك، وتسلمها الملك الناصر في شهر ربيع الأول من سنة 635هـ، ولكن ما لبثت المنطقة أن أصبحت تحت سلطان الملك الكامل في نفس العام، وبقيت فترة إلى أن توفي، وتنازعت منطقة دمشق(54) بين الملك الجواد مظفر الدين يونس وبين الملك الناصر داود، حيث خرج الناصر في دمشق وتوجه إلى عجلون وأخيراً استقر في قلعة الكرك ليكون جيشاً عسكرياً للسيطرة على دمشق.
وهكذا بقيت البلاد من الكرك إلى غزة من المناطق المحيطة بهذا الشريط الممتد تحت سلطان الملك الناصر داود، ومن هذا الشريط جبال عجلون، ولكنها كانت تتعرض أحياناً لمنازعات شديدة، ومنها تحالف الملك الجواد مع الملك الصالح نجم الدين أيوب خشية تحالف الملك العادل مع الناصر داود، إلا أن صاحب بعلبك الملك الصالح إسماعيل تحرك إلى دمشق فاستولى عليها بعد أن كانت مع نجم الدين وسجن ابنه المغيث، مما أدى إلى تغير مجريات الأحداث، وكان الناصر داود مع مصر فقدم على إمارته في الكرك، وأثناء ذلك انضم إليه الأمير سيف الدين علي بن قلج النوري فأقطعه عجلون وأعمالها مع بيسان وأعمالها(55)، وقد أبلى هذا الأمير مع الناصر بلاءً حسناً، إذ اصطدمت قوات دمشق المرسلة من الصالح نجم الدين أثناء حكمه لدمشق بقيادة عز الدين أيبك مع قوات الناصر بقيادة سيف الدين أدت إلى استيلاء قوات الناصر على أحمال قوات الصالح وأثقالها وذخائرها.
ثم عاد الصالح أيوب ليعقد اتفاقاً مع الصالح إسماعيل شريطة أن تبقى دمشق وأعمالها للصالح إسماعيل مع قيام الخطبة لنجم الدين وشريطة أن يهاجم الناصر داود، وفعلاً أرسل الصالح إسماعيل قواته بقيادة الملك المجاهد إبراهيم صاحب حمص إلى عجلون للانتقام من صاحبها سيف الدين(56)، وحاصرت قواته المدينة والقلعة، لكن قوات عجلون استبسلت في الدفاع أمام القوات المهاجمة، واستطاعت تدميرهم، وقضت على أكثر من مائتي جندي من قوات دمشق، وكلفت هذه الحملة أكثر من أربعمائة ألف دينار(57)، وفي النهار انسحبت القوات، وخاصة أنه وقع خلاف بين الصالح نجم والصالح إسماعيل، وقد أدى هذا الخلاف إلى دخول إسماعيل مع الإفرنج ودخول نجم الدين مع قوات مصر والخوارزمية، وكانت النتيجة تقدم هذه القوات إلى معظم فلسطين والأغوار وإلى دمشق، وذلك سنة 643هـ، ولما شعر سيف الدين علي بن قلج بقدوم قوات مصر والخوارزمية ونجم الدين إلى جبال عجلون قدم قلعتها إلى دمشق وسلمها نجم الدين مع ذخائرها وأموالها وخرج عن طاعة الناصر داود(58).
ثم دخل الناصر يوسف صاحب حلب إلى دمشق في سنة 648هـ، وتمكن من السيطرة عليها وعلى أعمالها(59)، ثم أرسل قواته إلى عجلون، فاستعصت عليه، ثم حاول مرة أخرى وبقيت منيعة، فكاتب نائبها فسلمها إليه وأرضاه، وأعطى قاضي عجلون ألفي دينار لكنه ردها، وبقيت جبال عجلون تحت سلطانه إلى أن دخل المغول إلى بلاد الشام في عام 658هـ.
وكان من أحداث سنة 658هـ، انتقال شمس الدين أقوش البرلي العزيزي الذي كان أميراً على السواحل وغزة، وكان من مماليك الملك العزيز محمد صاحب حلب، حيث اعتقله الناصر يوسف في قلعة عجلون لمؤامرته على ابنه، ولكن لما توجه الناصر بالعسكر إلى المغول مندفعاً من بين يدي التتر أخرج البرلي من حبس عجلون وطيب خاطره(60).
ثم هرب الناصر يوسف إلى البلقاء، وأثناء اقتحام التتار لبلاد الشام توجهوا إلى جبال عجلون، وحاولوا اقتحام القلعة لكنهم عجزوا، فضربوا حولها حصاراً منيعاً ثم طاردوا الناصر يوسف الذي التجأ إلى القبائل(61)، وحصل بين قوات المغول والقبائل المحتمي بها مقاتلة شديدة، ولم يستطيعوا القبض عليه إلا عن طريق أحد غلمانه المسمى حسين الكردي الذي أخبرهم عن مكان وجوده، فأحضروه إلى قلعة عجلون وأرغموه على أن يسلمها، فسلمها ثم دخلوها وأخذوا الذخائر والأموال، ثم أنزلوا الجواري من القلعة إلى أسواق المدينة حفاة عراة، وقاموا بهدم أجزاء كثيرة من القلعة وبالأخص الأطراف العلوية، أما الناصر يوسف فقد استقدم إلى هولاكو الذي قطع عنقه، وأما حسين الكردي فقد وقع أسيراً بأيدي المسلمين فقتله السلطان قطز شنقاً(62).
ولقد أولى السلطان الظاهر بيبرس جبال عجلون عناية خاصة، فبعد إخراج المغول من بلاد المسلمين، سار الظاهر بيبرس ليثبت أركان الدولة وقواعد الملك، ويحصن الحصون ويقوي الجيش، ويركز النواب في المناطق والبلدان، فأرسل عز الدين أيبك العلائي نائباً لعجلون، وأمر بإصلاح ما تهدم من القلعة(63)، وترميم ما تساقط، ثم زاد عليها ووسع فيها، ثم أمر بنقل الأسلحة والمنجنيقات والمعدات الحربية والذخائر وتزويد ثغورها بالرجال، وتخزين الطعام والغلات والأرزاق، وكان يهدف من ذلك أن تكون قلعة منيعة محصنة أمام الإفرنج، ومركزاً هاما للمواصلات بين الشام ومصر، ومركزاً ضرورياً للمراقبة، ونقطة التقاء بين شمال البلاد وجنوبها وبين شرق البلاد وغربها.
إلا أن الظاهر بيبرس بعد معركة عين جالوت ومحاولة دخوله للشام، وجد معارضة شديدة من الأمير علم الدين سنجر الحلبي الذي دعا لنفسه بالسلطان ولقب بالملك المجاهد، وحرك قواته من دمشق إلى عجلون، وأخضعها لسلطانه ونفوذه(64)، لكن ما لبثت قوات الظاهر بيبرس من الدخول إلى مدينة عجلون وقلعتها، وقد ساعد على ذلك أحد الشخصيات البارزة في المنطقة الذي كان على علاقة قوية مع الظاهر بيبرس أثناء وجوده مع سيده علاء الدين البندقدار، وهو قاضي عجلون أحمد ابن عبد الصمد بن عبد الله، وكان له كلمة مسموعة عند الناس، ومكانة مرموقة عند الظاهر، حتى أنه قلد إليه بعض الوظائف المهمة في مصر ودمشق، وكان دخوله لجبال عجلون سنة 659هـ.
كما كان الظاهر يتخذ من عجلون معتقلاً لخصومه السياسيين، إذ سجن فيها الأمير سعد الدين خضر بن حجي من أمراء بني بحتر(65)، والأمير عمر بن مخلول من أمراء آل فضل.
كما حكم عجلون كنائب في زمن الظاهر بيبرس الأمير ناصر الدين بن منكلي الظاهري السعدي وذلك قرابة سنة 675هـ وقبيل وفاة الظاهر بيبرس، إذ وجد نقش على لوحة في مقام الصحابي الجليل أبي عبيدة يشير إلى أن القبة المباركة المبنية على الضريح بأمر السلطان بيبرس، وفي نهاية النقش كتب "وذلك بنظر الأمير الأجل الأعز اللبيب ناصر الدين بن منكلي الظاهري السعدي نائب مملكة عجلون المحرر في شهر ذي الحجة سنة خمس وسبعين وستمائة"(66).
ويعد السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون من أبرز المماليك الذين حكموا بلاد الشام وإمارة الكرك، وقد ظهرت له بصمات واضحة في تاريخ شرقي الأردن منذ أن اعتلى عرش السلطنة بتاريخ 693هـ، وكان له ظهور بارز في جبال عجلون على الرغم من تعرضه للخلع مرات، والتجائه وحده إلى الكرك، ووقوع مصادمات عنيفة بينه وبين خصومه، ولكنه استطاع بحنكته وذكائه من بسط نفوذه وسلطانه على دمشق وأعمالها، والكرك وما تبعها، وبقي سلطاناً على البلاد لغاية عام 741هـ، حيث توفي، واستلم السلطنة ابنه الملك المنصور أبو بكر.
وكان الملك الناصر يولي أهالي عجلون عناية خاصة فقد وقفوا بجانبه وقفة قوية صلبة طيبة أثناء خروجه من دمشق إلى الكرك، بل كان كلما تعرض لخطر يقدم أهالي عجلون الممكن والمستطاع للملك الناصر، ولم ينس لهم هذا الود والعون، فلما دانت له البلاد وتمكن له السلطان أرسل إلى نوابه في دمشق وعلى فترات بإلغاء الجبايات.
ففي عام 710هـ، ثارت فتن في حوران وعجلون بسبب المظالم وكثرة المكوس وبسبب وقوع القتل والتخريب بين القيسية واليمنية، ولما وصلت الأنباء للملك الناصر في القاهرة كتب إلى نائب دمشق يلومه على ظلمه ويأمره بالقضاء على الفتنة، ويطالبه برفع الجباية عن الأهالي(67).
وفي زمن السلطان الملك الناصر زار الإمام العلامة شيخ الإسلام ابن تيمية منطقة عجلون وذلك في عام 712هـ، أثناء خروجه من مصر إلى دمشق، يقول ابن كثير: وقدم بصحبته السلطان الشيخ الإمام العالم العلامة تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية إلى دمشق يوم الأربعاء مستهل ذي القعدة وكانت غيبته عنها سبع سنين، ومعه أخواه وجماعة من أصحابه، وخرج خلق كثير لتلقيه وسروا بقدومه وعافيته ورؤيته، واستبشروا به حتى خرج خلق من النساء أيضاً لرؤيته، وقد كان السلطان صحبه معه من مصر فخرج معه بنية الغزاة، فلما تحقق عدم الغزاة وأن التتر رجعوا إلى بلادهم فارق الجيش من غزة وزار القدس وأقام به أياماً، ثم سافر إلى عجلون، وبلاد السواد وزرع، ووصل إلى دمشق في أول يوم من ذي القعدة(68).
ونزول شيخ الإسلام ابن تيمية لجبال عجلون أثناء مسيره إلى دمشق مفخرة عظيمة، إذ أنها استقبلت العلماء كما استقبلت العظماء، وكان سفر الإمام العالم إلى عجلون بعد نزوله في القدس، وهي لفتة طيبة من عالمنا الجليل إلى مكانة الجبال في ذلك الزمن عند العظماء والعلماء، واشتهارها عسكرياً وعلمياً، وقد تكون هذه الزيارة واحدة من زيارات عدة قام بها الإمام الجليل لمناطق العلم والشهرة والأهمية.
وفي عام 716هـ طلب الناصر مرة أخرى من نوابه إبطال المكوس في بلاد حوران وعجلون والبلقاء، وفي عام 724هـ، أمر نوابه بإبطال المكوس عن كل بلاد الشام.
وفي زمن الملك الناصر تطورت منطقة عجلون تطوراً عظيماً، واتسمت بمظاهر حضارية جديدة، وازدهرت بالعمران الزاهر، حتى وصفها المؤرخون والرحالة بالمدينة الحسنة، وانتشرت فيها التجارة، وكثرت الأسواق وعمت الخيرات، وزرعت البساتين، واستغلت المياه، ووجدت الطواحين والمعاصر والحوانيت.
ومن الأحداث العظيمة التي مرت بها مدينة عجلون عام 728هـ، أيام الملك الناصر محمد بن قلاوون إذ اجتاحها سيل جارف(69)بعد تعرضها لرياح شديدة وعاصفة قوية وسحب معتمة، ورعود مدوية وأمطار غزيرة حتى ظن الناس "أنها قد أزفت الآزفة"، وبدأت العاصفة صباحاً واستمرت حتى العصر، وقد كانت كارثة عظيمة، دمرت المنشآت القائمة على ضفاف الوديان، وجرفت السيول المتجمعة من أمطار الجبال والوديان الدور والأسواق والقياسر والحوانيت، وقد بلغ حجم الماء في وادي أبي الجود ووادي عين جنة مبلغاً عظيماً، حتى أنهما شكلا مع بقية الأمطار وادياً ضخماً وسط مدينة عجلون، بلغ عرضه رمية حجر وارتفاعه قدر قامتين أو أكثر، وسحبت الأمطار الحجارة والطين والأخشاب والثمار، وملأت السيول الجارفة المسجد الجامع حتى وصلت إلى القناديل المعلقة في وسطه، وسبب السيل تدمير الواجهة الشرقية لوقف المسجد، وخراب المطهرة والرواق القبلي، أما الأهالي فلم يغرق منهم إلا سبعة أشخاص، حيث كانت الخسائر بالمنشآت والمباني والغلات والأمتعة والمواشي والبساتين، والأسواق والحوانيت المختلفة، إذ كان في المدينة سوق الصاغة، وسوق اللحامين، وسوق الخليع، وسوق الحب، وسوق القطانين، وسوق الدباغة والصبغ، ومسلخ المعز والضأن، وحوانيت الخبازين، وحوانيت الطباخين، وحوانيت الدق، وحوانيت العلافين.
ولما بلغت الأخبار إلى نائب دمشق سيف الدين تنكز بن عبد الله ندب من يقوم بترميم المتهدم من المدينة وإعادة بناء الأسواق والطواحين والمعاصر والقياسر الحمامات، وإصلاح المتأثر من المسجد.
وهكذا حصل في البلاد من عَمار وخراب زمن الملك الناصر محمد، ولما آلت السلطة لابنه حسن في 748هـ، تعرضت البلاد لمرض الطاعون مع ما تعرضت له بلاد العالم والمسمى بالفناء الأعظم، حتى أنه أباد أعداداً كبيرة من أهالي أغوار الأردن وخاصة أهالي الكرك والبلقاء وعجلون، ووجدت أعداد كثيرة من الناس والأسود والذئاب والوحوش والخنازير والأرانب، وانعدمت الزراعة لقلة العاملين وفناء الفلاحين، فكان الرجل يوجد ميتاً والمحراث في يده(70).
وكان لخراب العمران وانعدام الزراعة أثر سلبي على الحياة السياسية في المنطقة إذ ضعفت السلطة واشتعلت الفتن وظهرت اللصوصية، حتى تعرض سكان جبال عجلون للسلب والنهب وذل في عام 750هـ.
وفي عهد الملك المنصور محمد بن حاجي وقعت فتن في المنطقة بين الفلاحين ذهب ضحيتها أعداد كبيرة، وقطعت أشجار كثيرة، ويصفها ابن كثير قوله: وفي شهر ذي الحجة سنة 762هـ اشتهر وقوع فتن بين الفلاحين بناحية عجلون، وأنهم اقتتلوا فقتل من الفريقين اليمني والقيسي طائفة، وإن عين جنا التي هي شرقي عجلون دمرت وخربت وقطع أشجارها، ودمرت بالكلية(71).
وكانت منطقة عجلون تابعة لدمشق فأرسل الأمير علاء الدين أمير علي نائب دمشق عسكراً للقضاء على الفتن، ولما وصل عرض عليهم الصلح فاصطلحوا، لكن الصلح لم يستمر طويلاً، إذ دام سنتين، وعادت الفتن ثانية بين الفلاحين.
وتشير هذه الحادثة إلى ضخامة الفتن وشدة استحكامها، وضعف الوازع الديني في تلك الفترة، وإن الفتن كانت عمياء أدت إلى التقاتل، وأن بلدة عين جنا كانت مسرحاً للحدث أكثر من غيرها، كما تشير الحادثة أيضاً إلى البعد الزراعي عند أهالي المنطقة، خاصة الاعتناء بالأشجار من بين تلك المزروعات، ذلك أن النكاية حصلت بأعز الأملاك.
وقد أصاب منطقة عجلون الخراب كما أصابها العمران، ففي سنة 770هـ، اجتاح منقطة عجلون أسراب من الجراد الذي قضى على المحاصيل الزراعية، وعرض البلاد لمحنة شديدة، وقد وصفه القلقشندي بقوله: "امتلأت منه المدينة، وغلقت الأسواق، وطبقت أبواب الدكاكين والطاقات، وسدت الأبواب"(72). ودخل إلى الجامع وأشغل الناس عن العبادة.
ومن أحداث الجبال التي مرت بي وأنا أبحث، ولعلها تعد من الطرائف ما ذكره ابن العماد الحنبلي في كتابه –شذرات الذهب في أخبار من ذهب- من حوادث عجلون عام 816هـ، أنه قام رجل خارجي اسمه عثمان بن ثقالة وادعى أنه السفياني المنتظر فأجابه بعض الناس، واجتمع عليه خلق كثير من عرب وترك وغيرهم، وأخيراً هوجم وحوصر وهو بجامع عجلون فألقي القبض عليه وعلى بعض أصحابه وأرسلوا إلى قلعة صرخد(73).
وحكاية ظهور السفياني في آخر الزمان في وادي اليابس من العلامات الدالة على قرب خروج المهدي المنتظر، كما أورده بعض العلماء الفضلاء ذوي الثبت في العلم، كالحافظ شمس الدين القرطبي في كتابه –التذكرة- والعلامة البرزنجي في كتابه –الإشاعة لأشراط الساعة-، وقد ذكرت الروايات أن السفياني المنتظر الذي يسبق المهدي المنتظر يخرج من ناحية دمشق في وادٍ يقال له اليابس.
والذي يظهر لي –والله أعلم- أن وادي اليابس الذي ذكر في الروايات هو الموجود ضمن منطقة عجلون، إذ أن هذا الاسم مشتهر منذ القدم، ولا مانع من ذكره على أنه من ناحية دمشق، ذلك أن الناحية معناها الجهة، مع أن جبال عجلون في فترة من الفترات، بالأخص العهد الأيوبي والمملوكي والعثماني كانت من أعمال دمشق.
تلك هي صفحات بسيطة من صفحات تاريخ جبال عجلون، وأحداث قليلة مرت على الجبال، بدءاً بالحضارات الإنسانية الأولى التي كانت قبل الميلاد، وانتهاءً بالحكم العثماني، ولم أتطرق للعهد العثماني، مع أن له تاريخاً عريقاً في الجبال، وبصمات واضحة على المنطقة، لأن الحديث عن العهد العثماني في البلاد حديث طويل ،إذ أنهم عاشوا في البلاد كثيراً، وما زالت بعض صفحات تلك الحياة واضحة لدى بعض الناس، وكانت منطقة عجلون تشكل جزءاً كبيراً في الحياة العثمانية لبلاد الشام، ومركزاً ومنطلقاً لمناطق أردنية عديدة.
وقد حصل مركز المخطوطات بالجامعة الأردنية على مخطوط نفيس ووثائق عثمانية من تركيا تتحدث عن مدينة عجلون وما كان يتبع لها في العهد العثماني، ولعل هذا الكتاب وأمثاله أو هذه الوثائق وأمثالها تفي بالغرض المطلوب من إعطاء الموضوع حقه دون ذكره بإشارات أو مقتطفات.
هوامش البحث ومراجعه
(1) بلادنا فلسطين، مصطفى الدّباغ 2/431، القسم الثاني.
(2) التوراة، صموئيل الأول، الإصحاح الحادي عشر.
(3) نقلاً عن بلدانية فلسطين العربية ص 154، مرمرجي الدومنيكي.
(4) القلقشندي، صبح الأعشى في صناعة الإنشا 4/106.
(5) الدّباغ، بلادنا فلسطين 3/461، القسم الثاني.
(6) التوراة، سفر القضاة، الإصحاح الثالث. وانظر آثار الأردن، لانكستر هاردنج ص31.
(7) لويس مخلوف، الأردن تاريخ وحضارة ص 54.
(8) الدّباغ، بلادنا فلسطين 2/10، القسم الثاني.
(9) لانكستر هاردنج، آثار الأردن ص 72.
(10) الدّباغ، بلادنا فلسطين 2/431، القسم الثاني.
(11) تهذيب سيرة ابن هشام ص 112.
(12) لانكستر هاردنج، آثار الأردن ص 74.
(13) محمود العابدي، الآثار الإسلامية في فلسطين والأردن ص 222.
(14) المعجم الوسيط 2/798.
(15) الدّباغ، بلادنا فلسطين 3/486، القسم الثاني.
(16) ابن كثير، البداية والنهاية 14/289.
(17) ياقوت الحموي، معجم البلدان 5/424.
(18) التوراة، صموئيل الأول، الإصحاح الحادي عشر.
(19) المعجم الوسيط 1/329.
(20) الدّباغ، بلادنا فلسطين 1/80، القسم الأول.
(21) المعجم الوسيط 1/68.
(22)شمس الدين السخاوي، الضوء اللامع لأهل القرن التاسع 2/232، يعقوب عودات، القافلة المنسية ص75 .
(23) المعجم الوسيط 2/598.
(24) الحموي، معجم البلدان 3/112.
(25) الدّباغ، بلادنا فلسطين 3/496، القسم الثاني.
(26) التوراة، صموئيل الأول، الإصحاح الحادي عشر. وانظر آثار الأردن ص 55.
(27) الأردن تاريخ وحضارة، لويس مخلوف ص 8.
(28) المساجد الإسلامية القديمة في منطقة عجلون ص 45.
(29) بلادنا فلسطين 1/407، القسم الثاني.
(30) انظر الأردن تاريخ وحضارة ص 14.
(31) بلادنا فلسطين 1/80، القسم الأول.
(32) في ربوع الأردن ص 79.
(33) سورة الإسراء آية رقم 1.
(34) صحيح البخاري 4/223.
(35) سورة سبأ آية رقم 18.
(36) الطبري، جامع البيان في تفسير القرآن 22/57.
(37) صحيح مسلم بشرح النووي 18/45.
(38) الفتح الكبير للسيوطي 3/9.
(39) نقلاً عن كتاب مكانة القدس في الإسلام، عبد الحميد السائح ص 28.
(40) بلادنا فلسطين 3/444، القسم الثاني.
(41) بلادنا فلسطين 1/713، القسم الأول.
(42) محاضرات تاريخ الأمم الإسلامية، محمد الخضري 1/195.
(43) محاضرات تاريخ الأمم الإسلامية 2/99.
(44) انظر القافلة المنسية، البدوي الملثم ص 65.
(45) معجم البلدان 3/112، وانظر الأعلام للزركلي 7/126.
(46) انظر حول تاريخ الدولتين في الكتب الآتية: مفرج الكروب في أخبار بني أيوب لابن واصل، المختصر في أخبار البشر لأبي الفداء، تراجم رجال القرنين لأبي شامة، ذيل تاريخ دمشق لابن القلانسي، البداية والنهاية لابن كثير، السلوك لمعرفة دول الملوك للمقريزي، الأعلاق الخطيرة لابن شداد. ومن الكتب الحديثة: إمارة الكرك الأيوبية ليوسف غوانمة، وتاريخ الأردن في عصر المماليك ليوسف غوانمة.
(47) ذيل تاريخ دمشق لابن القلانسي ص164.
(48) البداية والنهاية 12/267.
(49) السلوك لمعرفة دول الملوك للمقريزي 1/118.
(50) تراجم رجال القرنين ص 81.
(51) وانظر أيضاً البداية والنهاية 13/63.
(52) تراجم رجال القرنين ص 111.
(53) انظر الأعلاق الخطيرة لابن شداد 3/88.
(54) انظر البداية والنهاية 13/150
(55) انظر الأعلاق الخطيرة 3/89.
(56) انظر النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة لأبي المحاسن بن تغري بردى 6/321.
(57) انظر دول الإسلام للذهبي 2/147.
(58) انظر الأعلاق الخطيرة 3/89، السلوك لمعرفة دول الملوك 1/321.
(59) انظر تراجم رجال القرنين ص 186.
(60) انظر المختصر في أخبار البشر لأبي الفداء 3/207.
(61) انظر المختصر في أخبار البشر 3/204.
(62) انظر تراجم رجال القرنين لأبي شامة ص 206.
(63) انظر الأعلاق الخطيرة 3/91، السلوك لمعرفة دول الملوك 1/446.
(64) البداية والنهاية 13/275.
(65) ذيل مرآة الزمان لليونيني 3/7، وانظر تاريخ شرقي الأردن للغوانمة ص 73.
(66) انظر تاريخ شرقي الأردن في عصر دولة المماليك الأولى ص 88.
(67) انظر دول الإسلام للذهبي 2/215.
(68) البداية والنهاية 14/67.
(69) انظر البداية والنهاية 14/140، تاريخ شرقي الأردن ص 198.
(70) انظر السلوك لمعرفة دول الملوك 2/775، النجوم الزاهرة 10/198، وانظر أيضاً تاريخ شرقي الأردن ص 268.
(71) البداية والنهاية 14/289.
(72) صبح الأعشى في صناعة الإنشا 1/457.
(73) انظر شذرات الذهب في أخبار من ذهب، لابن العماد الحنبلي 7/115.